غداً .. تُمحَى الأسماء !

dr-aly

 

فيينا : علي فرغلي

الربيع فصل بالغ المحبة، يزداد فيه مرح الطبيعة والموسيقى .. من داخل مبنى الأوبرا، ماراً بكوبري قصر النيل الباعث على الحرية، ووسط زحام المارة، كان خرير الماء وإضاءة مراكب النيل يعزفان مقطوعة موسيقية لـ شعر “جاك بريفير”:

الحمار والملك وأنا سنكون غدا موتى –

الحمار من الجوع

والملك من السأم

وأنا من الحب.

كنتُ وصديقي في دار الأوبرا حين سمعنا هذا الشعر لأول مرة، حيث صور “جاك بريفير” معنى حقيقي للغد في نص يبدو بسيطاً. قتلت دار الأوبرا آنذلك هموما كانت لو كتبت في منشورات لما كفت عشاق كوبري قصر النيل، كان يقوم المركز الثقافي الفرنسي أسبوعيا بعرض افلام مترجمة إلى اللغة العربية، وكنا نسرق من اليوم تلك اللحظات، ليس حبا في اللغة الفرنسية وإنما هروباً من واقعنا، وكسر الحياة العملية الرتيبة، وكان الأكثر تشجيعاً لهذا النشاط هو مجانية الدخول.. أعتقد ان لا شيء الآن أصبح مجانياً.

تذكرتُ حمار جدي “الرهوان” كما كان يسميه والدي لسرعته الفائقة. هذا الكائن المهضوم حقه، صاحب النوايا الحسنة وسط الحيوانات، كنا نسعد جميعاً بوجوده، لكن لخوفي الشديد من سرعته لم امتطيه سوى مرات معدودة. آنذاك فكرتي اختلفت عن الحمير، كان يمتلك الحيوية والنشاط وقوة التحمل والمثابرة وولائه الشديد، هذه الميزات التي يفتقدها كثير من الحيوانات بل والبشر أيضاً.. كان مقبلا على الحياة بعنفوان، قبل أن تستقر على ظهره ينطلق كما لو أنك تركب “بساط ريح” كأنه يقاتل في معركة، أو كأنه يؤصل لمعناه في اللغة “المحارب البني”. كلما وجد الحمار عقبة أو حفرة في الطريق يقفز بقوة ليجتاز هذه المحنة، أيحق لنا بعد كل هذا أن نصفه بالغباء! ليتنا نستطيع أن نجتاز مثله محن الحياة بقفزة سريعة.

بعد فترة مات الحمار. الموت هو الحقيقة المؤلمة في الحياة، مات الأكثر حكمة، مات من لا يتكلم كثيرا، من التزم الصمت إزاء سخافات البشر .. ولم تمت الذكريات.

في فيلمه ” الملك والطائر المحاكي”، أظهر “جاك بريفير” كيف كشف الطائر للملك عيوبه وأخطائه، وحذره ممن يلتفون حوله، انهم ليسوا بالضرورة على صواب، لقد ابعدوه عن الرعية، صوروا له أن الحياة وردية، وأن كل شيء على ما يرام، يجلس الملك في أعلى القصر، معزولا عن هموم ومشاكل الشعب، يهتم فقط بالطبقة المقربة منه التي يكرّسها النظام من داخل نفسه، ما أدى في نهاية المطاف إلى التمرد .. لا شيئ يدوم على الإطلاق.. الملوك لا تختلف عن بعضها كثيرا .. يخططون أن يكونوا حكاما ذوي عدل واسع، وحينما يصبحون حكاماً يتجاهلون الشعب الذى أتى بهم، وكأن القوة والجبروت هي أساس الحُكم وليس العدل!

أسئلة كثيرة بسيطة وبديهية: ما الذي يمنع أن يعش الجميع في مساواة؟ ما الذي يمنع أن يخرج الناس من مستنقع الفقر ويعيشوا حياة آدمية؟ لماذا يتصرف معظم الحكام وكأنهم مخلدون؟ مع أننا نردد جميعا أن “الكرسي” لا يدوم لأحد .. هذا ما أراد الطائر أن يقوله للملك.

كان يريد التأكيد على “دور ومصالح الشعب أولاً”، ويصر من خلال الحوادث التي أوردها على أن السلطة الممثلة في الرواية بالملك والأمراء “يجب أن تكون في صف الشعب وخدمة مصالحه والحفاظ عليها وليس استعبادهم بالفقر والجهل، وإيمانا منه بأن للشعب قدرته أيضا على التغيير يوما ما إذا فاض به الكيل.

أما عني أنا وصديقي، ففي تلك الأثناء كنا نموت أيضاً .. مرة من الجوع وأحياناً من السأم ومن الحب مرات كثيرة.. حب الوطن رغم قسوته، فراق الأحبة واحد تلو الأخر.. وها نحن الآن، أدركنا بعد كل هذا، أننا سواء كنا حماراً أم ملكاً أم إنساناً عادياً، سوف تُمحى أسماؤنا وتبقى أعمالنا شاهدة علينا إلى الأبد.

 

 

شاهد أيضاً

بالفيديو – “طن لحم وطن دجاج ونصف طن أرز” في إفطار حي المطرية الشعبي بالقاهرة

وسط أجواء عمتها البهجة والسعادة، نظم سكان حي المطرية بشرق القاهرة، حفل إفطارهم الجماعي للعام …