الغربة .. غُربال البشر

Dr-Aly

 

فيينا – علي فرغلي : —

كل شيء حولي يبدو متناهي الصغر، وأنا مثل طفل يلهو بالقرب من السماء .. السفر بالطائرة تجربة ممتعة، ورؤية السحب البيضاء عن قرب، شعور يبعث على النشوة. أفقت من شرودي على صوت قائد الرحلة عبر المذياع: “سيداتي سادتي نستعد الآن للهبوط. من أجل سلامتكم يرجى البقاء في مقاعدكم وربط أحزمة الأمان”. بحذر وهدوء هبطت الطائرة بعد ثلاثة ساعات تقريباً هي مدة الرحلة. بداية جديدة وميلاد جديد، كأنك تقطع الحبل السُرَي الذي يربطك بعالم عشت فيه أكثر من ربع قرن بعالم جديد يعمل مثل خلية النحل، بنسائه الشقراوات الرشيقات مثل الملكات!

يقول المثل الشعبي: “ما يعرف الطرق إلا اللي ماشيها”.. قبل السفر كنت أحتاج إلى التدريب على بعض الأجهزة العِلمية، سألت إحدى زميلاتي بجامعة سيناء، إذا كان والدها الأستاذ بكلية العلوم جامعة المنصورة يمتلك هذه الأجهزة أم لا؟ وكنت محظوظاً بمعرفته على المستويين العلمي والإنساني. دار بيننا حديثاً شيقاً عن تجربته الشخصية في أمريكا والظروف التي دعته للعوده إلى مصر مرة أخرى، سألني: أين ستسافر؟ قلت: إلى النمسا. قال: إن أوروبا جميلة وعريقة، حاول أن تركز وتتعلم كل شئ، لا تعط الأمور أكبر من حجمها وركز في حديثه معي على نصيحة أضعها حلقة في أذني: ابتعد عن العرب، وإن كان لابد من التعامل معهم، انتق المعادن الأصيلة، فأغلب العرب مشاكلهم في الغربة أكثر من مشاكلهم داخل الوطن للأسف.

مازالت أتذكر نصيحته الغالية، ولكن أحيانا أشتاق إلى التحدث بلغتي الأم، فاقترب من بعضهم، لكني أصاب بالخذلان مجدداً! هذا لا ينفي وجود نماذج مشرفة ومحترمة يغلب عليها الأصل الطيب ونقاء النفس، فكلنا بشر نحمل بداخلنا الخير والشر، لكن الغربة تكشف المزيفين، بينما الناس الأصيلة لا تتغير. في الغربة  نعرف الوجه الحقيقي للبشر.. ناس كلماتهم كالرصاص وآخرون متفائلون دائماً ويشجعون غيرهم.

 

بالطبع العيب ليس في الغربة نفسها، هي مجرد محك يظهر فيه معادن البشر، يمارسون فيه ما تعلموه من مبادئ وقيم. البعض يظل يشعر بالدونية والنقص لكونه غريب، والبعض الآخر يمارس الفوقية والتعالي نتيجة فراغه الداخلي. تعلمك الغربة أن الوطن عزيز وأنّ البعد عن الصراعات هو بوابة المحبة وإلا سوف تشيخ ويزيد عمرك الضعف. تعلمك أن تنتصر على نفسك أولاً وعلى التخاذل والتشاؤم.  الغربة غربال يفصل الأصدقاء ذوي القيمة عن غيرهم الذين لا نفع منهم.

الغربة هي المواجهة الأصعب التي تتعلم منها أعظم الدروس وأهم العبر.  تمنحك القوة والإعتماد على النفس حين يتغير كل شئ من حولك، ستعرف أنها أهم المدارس، قوانينها قاسية وصارمة، لكن رغم كل هذا سوف تجعل منك إنسانا قويا، قراراته سريعة، صلب في مواجهة الأزمات. تعلمك أن تظل واقفا شامخا تواجه حياتك وحيداً إلا من المحبين والأصدقاء! غير مسموح لك أن تنكسر أو تضعف، فهي مثل محرقة الذهب.

ستتغير حتماً. ستكون شخصا آخر غير الذي تعرفه، تبهر نفسك في بعض الأوقات وتخذلها أوقات أخرى، ربما تنسى أشخاصا وينساك أشخاص أيضاً، وستكتسب أصدقاء جدد، ستشعر بالحنين دائماً، ستفتح ألبوم صورك القديمة في أوقات فراغك، لتكتشف نفسك من جديد رغم بُعد المسافات، وتكتشف معادن الأوفياء الذين ما زالوا على عهد الصداقة القديم، ستجد لديك طاقة نفسية أكبر على التسامح، هذه اللغة الراقية والنادرة التي تساعدك على تقبل الآخرين، لغة لا يتعامل بها إلا القوي.

قال لي “إسلام مفيد” أحد الآصدقاء المقربين حين كنت أتردد إلى مكتبه قبل السفر: الغربة لها أنياب حادة تهرس كل من يمر خلالها، سوف تحتاج إلى خمس أعوام حتى تقوى عظامك! وبعد خمس سنوات أقول لإسلام: إن كنت لا تزال تعيش في بلدك آمنا متطمئنا، تستمتع بحياتك مع أصدقائك وأقاربك وأهلك وجيرانك، وتمارس الرياضة وتتناول وجبات صحية وتنام مرتاح البال فأنت إنسان محظوظ.   وإن لم تكن كذلك، فعليك أن تسافر اليوم قبل الغد إلى بلد تحترم إنسانيتك.

أن تعيش مغترباً في بلد آخر خير لك من أن تعيش غريباً في بلدك، مسلوب الحرية والإرادة غير قادر على الاستمتاع بالحياة .. لكن قبل أن تسلك طريقاً وعراً عليك أن تطمئن إلى مستقبلك هناك أيضاً وأن تأخذ بيدك خرائط السير والعيش حتى لا تدفع الفاتورة مرتين.

شاهد أيضاً

بالفيديو – “طن لحم وطن دجاج ونصف طن أرز” في إفطار حي المطرية الشعبي بالقاهرة

وسط أجواء عمتها البهجة والسعادة، نظم سكان حي المطرية بشرق القاهرة، حفل إفطارهم الجماعي للعام …