مظاهرات وانهيار اقتصادي ودعوات للانقلاب.. حال السودان بعد شهرين من رفع العقوبات

بعد أقل من شهرين من رفع واشنطن اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، لم تَسعد الخرطوم بعد بوعود ساساتها الذين انطلقوا في قطار التطبيع مع إسرائيل، أملًا في استقبال فرضية الازدهار الاقتصادي المرتقب المتعطل منذ 27 عامًا، وهو تاريخ وضع السودان كدولة راعية للإرهاب وتغليظ العقوبات عليها خلفية استضافة نظام الحركة الإسلامية – الحاكم آنذاك – زعيم تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن، الذي مكث في ضيافة الحكومة السودانية بين عامي 1990 و1996.

وبالرغم من أنّ رئيس الوزراء السوداني في الحكومة المؤقتة عبدالله حمدوك اعتبر في خطابٍ تليفزيوني أنّ رفع العقوبات يتيح لحكومته إدارة الاقتصاد بشكل أفضل، ويعفي بلاده من ديون خارجية تتجاوز قيمتها 60 مليار دولار، إلا أنّ الصورة على الأرض تشي بتظاهرات أغلقت شوارع رئيسية في العاصمة، ووضع اقتصادي متأزم، ودعوات صريحة من البعض للانقلاب، في ظل تفاقم وتباين وجهات النظر بين الحكومة السودانية والمجلس السيادي في عدة ملفات.

تظاهرات وهتافات داعية للانقلاب.. ما الذي يحدث في السودان؟

لليوم الرابع على التوالي، شهدت الخرطوم احتجاجات واسعة تزامن معها إغلاق المتظاهرين عددٍ من الشوارع الرئيسة في العاصمة الخرطوم، تنديدًا بالأوضاع المعيشية المضطربة، وبسبب إعلان الحكومة رفع أسعار الوقود للمرة الثانية خلال شهرين، واللافت أنّ الفصيل الذي قاد التظاهرات هو «تجمع المهنيين»، وهو أحد أبرز مكونات قوى الحرية والتغيير المحركة للثورة في السودان، والذي سبق له وأعلن عدم مشاركته في المجلس السيادي أو الحكومة الانتقالية الحالية

ورغم انخراط السودان في التطبيع مع إسرائيل، وحصوله على تعهدات بدعم مالي قيمته 1.8 مليار دولار مخصّص للنفط والقمح، ومليار دولار في صورة منحة أو قرض لمدة 25 عامًا، بالإضافة إلى منحة بقيمة ملياري دولار للتعامل مع الأزمة الاقتصادية في السودان والتزامًا بالدعم الاقتصادي من الولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة. إلا أنّ السودان يشهد منذ أسابيع شًحًا في السلع الأساسية ممثلة في الخبز والدواء والوقود وغاز الطبخ، تزامًا مع الانهيار اليومي الذي يشهده الجنيه السوداني أمام العملات الأجنبية.

فكرة التطبيع بوصفها حلًّا للمشكلات الاقتصادية لم تكن كافية؛ فعلى وقع الاحتجاجات التي جابت عدة مدن في أكتوبر (تشرين الأول) العام الماضي، أرسلت إسرائيل شحنة من القمح قيمتها 5 ملايين دولار لمن وصفتهم «أصدقائنا الجدد في السودان»، إلا أنّ ذلك لم يحل المشكلة، كون الشحنة تكفي لثلاثة أيام فقط، وبحسب الإحصاءات الرسمية، فالسودان يستهلك سنويًا 3 ملايين طن من القمح، بتكلفة يومية 1.6 مليون دولار.

الصحافي السوداني أسامة عبد الحليم ينقل لـ«ساسة بوست» شهادة ميدانية من قلب الأحداث قائلًا: «لجان المقاومة محتجين على رفع الدعم والغلاء، والأحوال المعيشية الصعبة، والمطلوب حاليًا إصلاح السياسات الاقتصادية الحالية، وهو ما سبَّب انقسامًا بين المتظاهرين، فالبعض يطالب بذهاب حمدوك، والبعض الآخر يطالب باستيلاء العسكر على الحكم مرة أخرى».

الرواية التي ينقلها الصحافي السوداني تبدو امتدادًا لافتًا لإجهاض أول تجربة ديمقراطية في السودان عام 1958، فالخلافات التي أسقطت أول حكومة ديمقراطية برئاسة إسماعيل الأزهري، تبعتها قيام حكومة ائتلافية جمعت بين حزب «الأمة»، وحزب «الشعب الديمقراطي» برئاسة عبدالله خليل الذي سارع بتسليم السلطة للجيش نكايةً في خصومه السياسيين، بدعوى فشل القوى السياسية في التوافق على رؤية «دولة ما بعد الاستقلال»، ليتسلم بعدها وزير الدفاع آنذاك إبراهيم عبود السلطة، بعد سحب الثقة من رئيس الحكومة، وحل البرلمان

ماضي السودان الذي انتهى بمشهد الحنين للاستبداد، يتشابه إلى حدٍ كبير مع أزمات الحكومة الحالية المتفاقمة، فعبدالله حمدوك يفشل منذ شهرين في الإعلان عن التكوين الوزاري الجديد الذي من المقرر أن يضم 26 وزيرًا ضمن مقررات اتفاق السلام الذي وقعته الحكومة السودانية مع تحالف «الجبهة الثورية»، الذي يضم خمس حركات مسلحة، وأربع حركات سياسية في أكتوبر العام الماضي.

وبحسب البنود المعلنة من الاتفاق، فالحكومة ملزمة بتمثيل الحركات المسلحة الموقعة في «مجلس السيادة» الحالي بواقع ثلاثة أعضاء، و25% من الحقائب الوزارية، و75 مقعدًا في المجلس التشريعي من أصل 300 مقعد أي بنسبة 25%، لكنّ اختلافًا في وجهات النظر يعوق حتى الآن تشكيل الحكومة التي يطالب المتظاهرون بإسقاطها، وعلى رأسهم «تجمع المهنيين» الذي دعا في بيانٍ رسمي لإسقاط الحكومة الحالية التييرأسها حمدوك منذ أغسطس (آب) من العام 2019.

رغم امتلاكه «عصا موسى».. لماذا لم يوقف التطبيع انهيار العملة؟

بموجب الإعلان الدستوري الموقع في عام 2019 بين المجلس العسكري والقوى المدنية، فمن المقرر إجراء الانتخابات الرئاسية والنيابية في السودان أواخر عام 2022، ثم تليها استقالة حكومة حمدوك كجزء من تحقيق عملية الانتقال الديمقراطي للثورة السودانية.

وحمدوك الذي عينه البشير وزيرًا للمالية عام 2018، نظرًا لكونه خبيرًا في مجال إصلاح القطاع العام وإدارة الأنظمة الديمقراطية والتي باشرها خلال عمله أمينًا لـ«اللجنة الاقتصادية لأفريقيا» التابعة للأمم المتحدة، سبق وأعلن برنامجه الاقتصادي القائم على المزاوجة بين النظام الغربي وتجربة النمور الآسيوية وكوريا الجنوبية على نهج برجماتي، كحل وحيد لمنع انهيار النظام المصرفي السوداني.

لكنّ حمدوك بعد نحو عامٍ من رئاسته للحكومة أعلن أنّ الحل السوداني لأزمات الاقتصاد متمثل في تطبيع العلاقات مع إسرائيل التي بدت له «عصا موسى» لتجاوز أزماته، وبعد شهرين من انطلاق السودان في قطار التطبيع، وصل الجنيه السوداني لأدنى مستوياته على الإطلاق، وفي السوق غير الرسمية بلغ سعر صرف الدولار في السوق الموازية 300 جنيها، بينما يحدد فيه البنك المركزي السعر الرسمي بواقع 55 جنيها، ويحتاج السودان 2.5 مليار دولار لدمج أسعار الصرف الرسمية والسوق السوداء لوقف بوادر الانهيار الاقتصادي الوشيك.

وفي أول موازنة بعد رفع اسمه من قائمة العقوبات الأمريكية، أقرت الحكومة السودانية والمجلس السيادي موزانة العام المالي 2021، وتستهدف الموازنة تحقيق معدلات نمو 1.7%، وخفض معدل التضخم إلى حدود 95%، بدلًا عن 250% حاليًا، وهي إحدى أعلى معدلات التضخم في العالم.

ورغم أن الحكومة أكدت في الموازنة استمرار الدعم للقمح والدواء وغاز الطبخ والكهرباء، وخفض الإنفاق العام 24%، إلا أنّ سعر صرف الدولار الجمركي المعتمد في الموازنة بواقع 55 جنيهًا، لا يتماشى مع حقيقة سعر الدولار الحقيقي في السوق السوداء، وفي أول أزمة اقتصادية، لجأت الحكومة لرفع سعر وقود السيارات بزيادة كبيرة من 121 جنيها (2.2 دولار) للتر البنزين إلى 127 جنيها (2.3 دولار).

ويشهد السودان حاليًا أزمة أكبر من أزمة الوقود، فتصاعد أزمة الخبز وصل لرفع سعر الرغيف في السوق الموازي إلى 12 جنيهًا، في ظل توقف عدد كبير من المخابز عن العمل، وعمل بعضها بنصف الإنتاجية، في وقتٍ تشهد فيه البلاد اصطفافًا طويلًا أمام المخابز لعدة ساعاتٍ للحصول على الحصة المقررة لكل فرد.

وبينما كان من المفترض أن يدعم التطبيع مع إسرائيل ورفع العقوبات الأمريكية الاقتصاد السوداني عبر شطب 60 مليار دولار من ديونه، ومنحه مليار دولار من واشنطن، للمساعدة في سداد المتأخرات، إلا أنّ اتهاماتٍ مباشرة وُجهت للحكومة السودانية بمسئوليتها عن انهيار سعر العملة متمثلة في الآلية التي تعمل بها «محفظة السلع الإستراتيجية» التي أسستها الحكومة بمشاركة البنوك والقطاع بهدف مويل الواردات من السلع الإستراتيجية.

ويُنسب لهذه المحفظة السبب الرئيس في انخفاض سعر الجنيه السوداني، فبغرض تأمين مبالغ الاستيراد، يضطر مسئولو المحفظة لشراء العملات من السوق الموازي بكميات ضخمة وبأعلى الأسعار، إلا أنّ الحكومة السودانية لم ترد حتى الآن على تلك الاتهامات، كما لم تعلق على التظاهرات التي أغلقت شوارع العاصمة.

اشتباكات على الحدود وحرب أهلية في دارفور.. لماذا تراجع الوضع الأمني؟

بعد أقل من ثلاثة أسابيع على تسلّم الخرطوم لمهام الأمن من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي العاملة في السودان منذ 13 عامًا، اندلعت في منتصف الشهر الجاري، اشتباكاتٍ عنيفة في إقليم دارفور – غرب السودان – تسببت في مقتل 250 شخصًا، بحسب المفوضية السامية لشئون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، والتي أعلنت أنّ أعمال العنف الأخيرة أجبرت أكثر من 100 ألف شخص في دارفور على الفرار من ديارهم، بما في ذلك عبور نحو 3 آلاف و500 شخص إلى دولة تشاد.

تعود خلفية الأحداث بحسب وسائل إعلام سودانية محلية إلى مقتل طفل والتمثيل بجثته، على يد مجموعة من الميليشيات، وهو ما أدى لمظاهرات غاضبة انتهت بعنفٍ قبلي بين قبيلة «الرزيقات» التي هجمت على معقل قبيلة «الفلاتة» بواسطة آليات طلبًا للثأر، لتتحول الاشتباكات إلى مواجهات أوسع بين قبائل تلك المنطقة.

وطبقًا لاتفاق السلام بين الحكومة الانتقالية والحركات المسلحة، فالحكومة ملزمة بنشر قوة مشتركة قوامها 12 ألف جندي مناصفة بين الطرفين لحفظ السلام وحماية المدنيين بدارفور، وبينما حذرت الأمم المتحدة من أنّ غياب انعدام الأمن والإنفلات سيعرض دارفور لمزيد من أعمال العنف، يقول مستشار رئيس حركة «العدل والمساواة» لموقع «الجزيرة»: «إن نشر القوة الوطنية إجراء طويل يتطلب شهرين إلى ثلاثة أشهر»، في إشارة إلى احتمالية استمرار العنف شهورًا أخرى، رغم إرسال الحكومة قوات للسيطرة على الوضع.

وبعيدًا عن دارفور، يشهد السودان توتراتٍ حدودية مع إثيوبيا في أراضي الفشقة، زادت من حدتها تباين الخلافات التي أدت لتعليق مفاوضات سد النهضة، وفي آخر تطور على صعيد الأوضاع المتوترة، رد الجيش السوداني على قصف مدفعي استهدف وحداته نفذته قوة إثيوبية من داخل الحدود.

وسبق واتهمت إثيوبيا السودان بالسعي لإشعال الموقف، بدلًا عن احتوائه عبر القنوات الدبلوماسية، في إشارة مبطنة إلى أنّ السودان قد تجد في أمر الحرب فائدة لإثقال الوزن السياسي للمجلس العسكري من جهة، ولاستعادة شعبية رئيس الوزراء، كما أن الحدث نفسه كافيًا لإيقاف أية إرهاصات ثورةٍ مقبلة ضد الحكومة الانتقالية خاصة بعدما تبخرت كافة وعود التطبيع، وهو الطرح نفسه الذي تناولته عدة تحليلات عربية.

تُقابل فكرة التطبيع، بوصفها حلًّا للمشكلات الاقتصادية، بالحديث عن المقارنة مع الوضع الاقتصادي الحالي لجنوب السودان، وقد ساعدت إسرائيل جوبا على الانفصال عن الشمال عام 2011، لكنَّ البلد الغني بالنفط عانى خمس سنوات من الحرب الأهلية، وهو ما تسبب في حدوث مجاعة عام 2016 تزامنًا مع انخفاض قيمة العملة، وكسر التضخم لحاجز الـ800%، وهو سيناريو شبيه بالوضع الحالي في الخرطوم، وإن كانت السودان أقل حدة.

 

شاهد أيضاً

التاريخ يعيد نفسه.. ومظاهرات الجامعات الأمريكية ليست أقل قدراً من زلزال السابع من أكتوبر

نعم يعيد التاريخ نفسه، ورايات الحرية والعدالة يتسلمها جيل جامعي من جيل قبله. وإن كانت …