في زمن التعويم.. أم تعمل في 3 صنايع من أجل لقمة العيش

كلما احتاجت سارة شيئا، سألت والدتها على استحياء: “ماما إنتي معاكي فلوس دلوقتي؟”. لم تعتد الفتاة ذات الثماني سنوات على تلك الجملة، مازالت ذاكرتها الصغيرة تحمل تفاصيل ما قبل نوفمبر الماضي، حين كانت أحلامها مُستجابة، غير أن الوضع ضاق في 2017؛ صار لزاما على الأم حنين علي تدبير أمر المنزل، إذ أضافت لعملها الأساسي مهنتين أخريين لتواكب ارتفاع الأسعار الجنوني بعد تعويم الجنيه نوفمبر الماضي.

تعمل حنين ذات الستة وثلاثين عاما كأخصائية رياضية في جامعة القاهرة، تُدشن أنشطة الطلاب، وتُشرف عليها. ظلت الأم قانعة بذلك منذ تعيينها عام 2012 ضمن أوائل الخريجين من كلية التربية الرياضية “المرتب كله 1000 جنيه”، كانت بصحبة زوجها يُدبران الأمور المادية “بس بعد التعويم تحديدا من ديسمبر اللي فات الدنيا باظت تماما”، لا سيما وأن حنين انفصلت عن زوجها صيف 2016.

حين سمعت الأم عن قرار تحرير سعر صرف الجنيه المصري “قلبي وقع.. كنت عارفة إنه غلط لأن الحكومة مش هتقدر تراقب على أسعار سلع كتير”. لم يخيب ظن السيدة؛ عاينت ارتفاعا ملحوظا لبعض السلع دون مبرر “أي حاجة يقولك أصل التعويم واحنا اللي بنطّحن في النص”. حينها أيقنت والدة سارة وكريم أن الوقت حان لمزيد من الضغط والعمل.

اعتادت حنين العمل كمنقذة سباحة في أحد النوادي في فصل الصيف “آخر نوفمبر 2016 اتصلت بزمايلي في النادي وطلبت منهم أرجع أشتغل شتا وصيف”، وبالتزامن بدأت في العمل كمدربة سباحة في إحدى كليات التربية الرياضية “وحاليا كدة بشتغل 3 حاجات”.

في السابعة صباحا تخرج حنين بصحبة ولديها، توصل سارة إلى المدرسة وكريم إلى الحضانة، تذهب لعملها في الجامعة وتستمر فيه حتى الثالثة عصرا، ثم تصطحبهما في طريق العودة للمنزل، تجهز طعام الغداء ولا تأكل، تهرع إلى النادي أو كلية التربية الرياضية لأجل العمل، قبل أن تعود لمنزلها قُرب العاشرة مساءً.

كي تستطيع الأم الموازنة بين مواعيد المهن الثلاثة “اضطريت اخلّي الشغل الحكومي بتاعي 3 أيام في الأسبوع بس وبيتخصم لي 25% من مرتبي”، بحسبة بسيطة علمت أن راتب 1300 جنيه الذي تحصل عليه من الإنقاذ وحوالي 1000 من تدريب السباحة يعادلان الكفة قليلا، بالإضافة لراتب شهري من الزوج السابق لتغطية بعض نفقات الأطفال، إلا أن المبلغ النهائي يصل بالكاد إلى 5000 جنيها، تغطي كافة أمور المعيشة منهم، بما ذلك فواتير الكهرباء والمياه والغاز وإيجار المنزل “لما بقعد أحسب ببقى هتجنن… المصاريف دي يادوب مغطية البيت من غير ما احسب تكلفة تعب حد من العيال أو أي طارئ”.

الاستغناء أصبح فريضة على سيدة المنزل، فيما كانت الرفاهية صديقتهم العام الماضي “كنا بنشتري شيكولاتة… بنخرج.. لازم أجيب للاولاد حاجة حلوة كل يوم.. ممكن ادخل البيت بدستة جاتوه.. دلوقتي كل دة دلوقتي مفيش”، تضحك حنين بمرارة متذكرة الأيام الخوالي “ياريتها تيجي على الرفاهية.. فيه حاجات أهم بدأنا نستغنى عنها”.

حتى 2016 كانت سارة ملتحقة بمدرسة لغات “تمن مصاريفها حوالي 15 ألف جنيه في السنة”، مع بداية العام الحالي نقلتها الأم إلى مدرسة أخرى سعر مصاريفها حوالي 5000 جنيها “التعليم أقل جودة.. بقى لازم أنا أبذل مجهود أكبر بكتير عشان بنتي تفضل على نفس المستوى”، أما اللحوم التي طالما اعتبرتها الأم هامة لنمو الطفلين “بقينا دلوقتي ناكل فراخ 3 أيام وبقية الأسبوع أورديحي”، ذلك فضلا عن تغير أسعار مستحضرات الوجه التي تحتاجها حنين لعملها؛ كواقي الشمس الذي كان سعره منذ أشهر 95 جنيها، فوجدته منذ أيام وقد تجاوز الـ300 جنيه.

تتحمل حنين الكثير، تستيقظ أحيانا لتجد نفسها مُرهقة، لكن مضطرة للخروج “كل يوم غياب بيتحسب من فلوس البيت”، تنظر لنفسها أحيانا كبطلة “في التدريب بقعد 4 ساعات في المياه وأخرج منها على البيت أروق الشقة وأعمل عشا وأذاكر لبنتي وابتسم في وشهم عشان ميحسوش بتعب”، إلا أن ثمة لحظات من العجز في 2017 لا يمحوها شيء، تتذكرها الأم كأنها أمس.

في أحد الأيام انقطع حذاء حنين بينما هي في الطريق للعمل “قطعة مينفعش معاها تصليح”. لم تمتلك وقتها في حقيبتها سوى 300 جنيه، تسمّرت في الشارع لتفكر “الفلوس دي لو اشتريت بمية جنيه منها صندل هتعجز معايا لآخر الشهر”، احتارت الأم في ما يجب أن تفعل “لقيت نفسي بعيط من زعلي”، فيما اضطرت إلى جرجرة قدميها حتى مقر العمل، واستعانت بـ”شبشب” لتقضي اليوم ثم تعود به إلى المنزل.

تضج رأس الأم بالأفكار، ويصرخ جيبها من الاستغاثة؛ تدفع حوالي 1300 جنيه شهريا مقابل الكهرباء والمياه والغاز وأجرة المواصلات لها وللأطفال، بالإضافة لمصاريف الطعام والدراسة، بينما تحاول في ذلك الزحام أن تشرح لابنتها الوضع بصورة بسيطة “بقولها إن فيه خطوات الحكومة خدتها خلتنا نشتغل أكتر ونتعب عشان نعرف نجيب فلوس”، يعبس وجه الفتاة التي تفهم الكلمات، لكن لا تجد سببا وجيها لعدم بقاء والدتها معها في إجازة الصيف أو يوم الجمعة “بحاول أعوضهم بأكلة من برة كل فترة.. في الآخر هما ملهمش ذنب”.

بين حين وآخر يبدو السفر خيار حنين الأوحد “بس عارفة إنه قرار مستحيل”، فلن تخاطر في الغربة مع طفلين “ساعتها شغلي لازم يغطي أكتر بكتير من مصاريفي”. لا تستطيع الأم حاليا سوى العمل دون راحة، فيما يمر بخاطرها أول جملة نطقت بها حين وقع التعويم “قلت لصحابي إن إحنا هناكل التراب وأهو بيحصل دلوقتي”.

شاهد أيضاً

بالفيديو – ضابط مصري ينهال ضربا وصفعا على مواطن فى الشارع يفجر الغضب

تداول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو لإهانة ضابط مصري لمواطن في وضح النهار …