الأربعاء , 24 أبريل 2024

لماذا يتعلم الرُضّع، والروبوتات لا تستطيع منافستهم في ذلك؟ علماء يكتشفون سر “الفطرة الإلهية”

Kind-Robort

 

أثناء تناوله العشاء ذات ليلة، تفاخر ديب روي لزوجته روبال باتل، التي كانت حينها تُكمل شهادة الدكتوراه في علم أمراض النطق واللغة، بأنَّه قد أنشأ بالفعل روبوتاً يتعلم بالطريقة ذاتها التي يتعلم بها الأطفال.

كان روي مقتنعاً أنَّه إذا حظي الروبوت بنفس نوع المدخلات التي يستقبلها الطفل ويتفاعل معها، فبإمكانه التعلم من هذه المدخلات.

أليكس بيرد المعلم السابق وعضو مبادرة “التعليم للجميع” رصد في مقال له بصحيفة The Guardian البريطانية، تجربة الزوجين في محاولة الاستفادة من طرق تعليم الأطفال لتطوير الروبوتات والعكس، أي الاستفادة من التكنولوجيا لتطوير تعليم الأطفال.

والنتيجة كانت مفاجأة.

روي بنى أول روبوتاته عندما كان عمره ست سنوات فقط، وكان حينها يعيش بمدينة وينيبيغ الكندية في سبعينيات القرن الماضي، وهو يعمل حالياً خبيراً في مجال الذكاء الصناعي وعلم الروبوتات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة.

ولم يتوقف عن صنع الروبوتات قط من وقتها. في الوقت الذي تحولت فيه هوايته تلك إلى مهنة، كان روي يتساءل عن طريقة عمل أدمغة الروبوتات، أو ما الذي يتطلبه الأمر، حتى تستطيع تلك الأجهزة التي يصنعها التفكير والتحدث؟

ويقول: “فكرتُ في أنَّ بإمكاني قراءة ما نُشِرَ من أدبيات حول تعلم الأطفال تلك الأمور، وأنَّ هذا من شأنه أن يمنحني مخططاً لبناء روبوتات قادرة على التحدث والتعلم”.

اكتشف روي أنه يمكن صنع روبوتٍ بإمكانه استيعاب علاقة الكلمات بالأشياء. كانت روبال تدير مختبراً للرضع في تورنتو، وسافر روي إليها لمعرفة ما يمكنه تعلمه هناك. وأثناء مشاهدته الأمهات والرضع على أرض الواقع، أدرك أنَّه كان يعلم توكو (الروبوت الذي اخترعه) بطريقةٍ خاطئة.

وأوضح روي لمجلة Wired في عام 2007: “لم أبنِ خوارزمية التعلم التي أعددتها بشكلٍ صحيح. يعلم كل والد أنَّه عندما تتحدث إلى طفلٍ يبلغ من العمر 11 شهراً، فيجب أن تُركز حديثك على موضوعٍ واحد بعينه.

إذا كنتَ تتحدث عن فنجانٍ مثلاً، عليك الالتزام بالحديث عن الفنجان، والتفاعل معه، إلى أن يشعر الطفل بالملل وحينها فقط تنتقل إلى موضوعٍ آخر”.

هل يتحقق حلمه بالروبوت الذي يتعلم كالبشر؟

Kind-Robort-1

كان روبوته يبحث في كل الأصوات التي سمعها وخزنها حين كان يتعلم شيئاً جديداً، لكنَّ روي عدَّل خوارزميته لإضفاء أهمية زائدة على أحدث التجارب التي مرَّ بها الروبوت، وبدأ في تغذيته بتسجيلاتٍ صوتية مسجلة من مختبر الأطفال التي تديره زوجته.

فجأة، بدأ توكو في تعلم مفردات أساسية بمعدل لم يسبق له مثيل في أبحاث الذكاء الصناعي. وأصبح حلم روي بإنشاء “إنسانٍ آلي قادر على التعلم بالاستماع ورؤية الأشياء” أقرب من أي وقتٍ مضى، لكنَّه كان بحاجة لتغذيته بالتسجيلات، التي كان من الصعب العثور عليها.

الطفل الأول لروي وروبال باتل حظه ليس عادياً، فوالده خبير في مجال الذكاء الصناعي وعلم الروبوتات، والأم متخصصة مرموقة في اللغة والنطق بجامعة نورث إيسترن القريبة.

وعلى مدار سنوات، كانا يخططان لجمع أكبر مجموعة من الفيديوهات المنزلية على الإطلاق عبر تسجيل طفولة ابنهما.

على سقف ردهة منزلهما، لمعت بقعتان سوداوان، كلٌّ منهما في حجم عملةٍ معدنية، فيما انتشرت بقعٌ أخرى على سقف غرفة المعيشة وغرفة الطعام. بلغ عدد البقع 25 بقعة في جميع أنحاء المنزل، تمثل 14 مايكروفوناً و11 كاميرا عين سمكة، وهي جزء من نظام أعدَّاه ليجري تفعيله عند عودتهما من المستشفى، بهدف تسجيل كل حركة يصدرها المولود الجديد.

كان روي يأمل أن تؤدي النتائج التي توصل إليها إلى حل لغزٍ يمكن أن يساعد الأطفال على الوصول لإمكاناتهم الكاملة. وفي الوقت ذاته إنشاء آلاتٍ تتعلم مثل البشر، فهل يمكننا أيضاً تطوير آلات يمكنها مساعدتنا على تحسين التعلم البشري؟

كان توكو أشبه بدمية بينوكيو بالنسبة لروي، لكن بينما كان يتساءل عما يمكن للأطفال الحقيقيين تعليمه للروبوتات، فإن كاتب المقال أليكس بيرد كان يريد أن يعرف إن كانت أشرطة الفيديو المنزلية هذه قد تُلمح إلى كيفية تحسين عملية التعلم لدى الأطفال الصغار.

ما الذي يتسبب في هذه الفروق الكبيرة بين أطفال الأسر الفقيرة والغنية؟

كتب الاقتصادي جيمس هيكمان أن “الولادة هي أكبر مصدر لعدم المساواة في الولايات المتحدة”. الأمر صحيح تماماً في المملكة المتحدة اليوم، حسب الكاتب، حيث يمثل مقدار ما يجنيه الوالد المؤشر الأقوى على الإنجازات الأكاديمية.

إذ ينخفض أداء ثلث الطلاب الملتحقين بنظام الحصول على وجبات مجانية (مؤشر للفقر) في اللغة الإنكليزية والرياضيات في شهادات الثانوية العامة.

أظهر هيكمان أيضاً أن أفضل طريقة لمعالجة عدم المساواة ذلك هو الاستثمار في تطوير الأطفال في أبكر مرحلة ممكنة في حياتهم. فليس من الكافي تغيير المدارس. علينا البدء في وقت أبكر من ذلك.

في عام 1995، نشر باحثان يُدعيان بيتي هارت وتود ريسلي نتائج دراسة أُجريت على 42 عائلة في مدينة كانساس الأميركية، بغرض مقارنة تجارب الأطفال المنتمين إلى عائلاتٍ فقيرة بأقرانهم الأكثر ثراءً، أثناء مرحلة ما قبل التحاقهم بالمدرسة.

كانت النتائج شديدة الوضوح، إذ قدَّر الباحثون أنَّه في سن الرابعة كان الأطفال الأغنياء قد استمعوا إلى ما يفوق أقرانهم الفقراء، بنحو 30 مليون كلمة. وقال هارت وريسلي، إنَّ “مشكلة الفوارق في المهارات بين الأطفال وقت دخولهم المدرسة أكبر وأصعب وأهم مما كنَّا نظن”.

أظهر بحثهما أنَّ التدخل في سن مبكرة قدر المستطاع أمر مهم، وتابعا: “كلما تأخرت الجهود، أصبح التغيير أكثر إمكانية”. مع أنَّ المشكلة هائلة، بدا الحل بسيطاً. كانت هناك فجوةٌ ما، وكان لا بد من ملئها بالكلمات.

أدت نتائج هارت وريسلي إلى انتشار هذا التوجه الذي دام إلى يومنا هذا. في جميع أنحاء العالم الناطق باللغة الإنكليزية، توافد أولياء الأمور لشراء البطاقات التعليمية وألعاب الذكاء لأطفالهم.

هل يتشابه العقل البشري مع الكومبيوتر؟

Kind-Robort-2

كاتب المقال يقول إن تجربته في الفصول الدراسية توحي بأنَّ هذا التفسير كان أبسط من اللازم (مقارنة تطور العقل البشري بمدخلات ومخرجات أجهزة الكمبيوتر). يضيف: كنت أشك في أنَّ تعلم الرضع لا يقتصر فقط على كم الكلمات التي سمعوها في سنواتهم الأولى.

يبدو أن كاثي هيرش باسيك، أستاذة تنمية الطفولة المبكرة في جامعة تمبل في ولاية بنسلفانيا الأميريكي وافقته الرأي.

فقد كتبت كاثي أنَّه “مثلما تملؤنا صناعة الوجبات السريعة بالسعرات الحرارية غير المفيدة، فإنَّ ما نسميه “صناعة التعلم” قد أقنع الكثيرين منا، أنَّ حفظ المحتوى هو كل ما نحتاجه لتجربةٍ تعليمية ناجحة وحياةٍ سعيدة”.

وكتبت أيضاً كتاباً مؤثراً شرح تحفظاتها، حول اندفاع توجه الكلمات هذا يحمل عنوان آينشتاين لم يستخدم البطاقات التعليمية: كيف يتعلم الأطفال حقاً ولماذا يحتاجون إلى لعبٍ أكثر واستذكارٍ أقل. كنت أعتقد أنَّها ربما يكون لديها بعض الإجابات.

لكاثي دور أسطوري في مجال التنمية المبكرة للطفل، فقد ألفت 12 كتاباً ومئات المقالات الأكاديمية، وهي زميلة مرموقة في إحدى الجامعات تدير مختبر جامعة تمبل للرضع والأطفال، وشعاره هو “حيث يُعلِّم الأطفال الكبار”.

قالت كاثي: “نحن نأتي إلى العالم مستعدين لقراءة “الإشارات المثالية من البيئة”. في المقابل فإن الروبوتات يمكنها التواصل فقط وفقاً لما بُرمِجَت عليه، ولا يمكن أن تتعلم إلا من المحفزات التي تُوجَّه للانتباه إليها، ما يحد من عدد التجارب التي من شأنها تشكيل سلوكياتهم. لا يوجد منطق وراء أساليب الروبوتات، لكنَّ الأطفال من ناحية أخرى هم متعلمون اجتماعيون.

أضافت كاثي: “نأتي إلى هذا العالم جاهزين للتفاعل مع البشر الآخرين ومع ثقافتنا”. ولا تكمن العبقرية البشرية الفعلية للأطفال في أنَّهم يتعلمون من البيئة فحسب، فالحيوانات الأخرى تستطيع فعل ذلك أيضاً، بل يمكن للأطفال الرضع فهم الناس من حولهم، وتحديداً تفسير نواياهم.

لماذا لا يتعلم الأطفال جيداً عبر الفيديو؟

تطور الجنس البشري ليتكون من المعلمين والمتعلمين. وتكتمل قدرة الطفل على فهم الأشخاص الآخرين عند بلوغ شهره التاسع، في لحظةٍ تطورية يبدأ فيها الطفل التحقق من درجة انتباه الآخرين، عبر الإمساك بالأشياء أو الإشارة إليها.

عند بلوغه عاماً واحداً، يصير بإمكانه متابعة انتباه الآخرين أو النظر إلى الشيء نفسه، أو لمسه، أو الاستماع إليه.

أما حين يبلغ 15 شهراً، فيصبح بإمكانه توجيه ذلك الانتباه، راغبين في حث الآخر على الاستماع لهذا الشيء، أو النظر إلى ذاك. إذ يعد تشارك الاهتمام نقطة البداية من أجل تعلم بشري واعٍ.

ولهذا لا يتعلم الأطفال الحديث من محادثات الفيديو أو الصوت أو الاستماع إلى أبويهم، فالبشر لم يتطورا بهذه الطريقة، لذا من المهم أن نتحدث مع أطفالنا، وهذا ما جعل فكرة تعلُّمنا من الروبوتات صعبة أيضاً (حتى الآن).

هل يمكن الاستغناء عن المعلم؟

أضافت أبحاث أكثر حداثة مزيداً من العمق للدروس المأخوذة من دراسة هارت وريزلي بجامعة كانساس الأميركية. ففي عام 2003، أجرت الطبيبة النفسية باتريشا كول تجارب على تعليم الأطفال الأميركيين اللغة الصينية الشمالية.

بعد تقسيم الأطفال لثلاث مجموعات (الأولى كان المعلم فيها يظهر عن طريق الفيديو، والثانية كان يعلم الأطفال عن طريق الصوت فقط، أما المجموعة الثالثة فقد حصلت على معلم بشري حقيقي). كان الأطفال الذين حصلوا على معلم حقيقي وحدهم من تعلموا أشياء. يتطلب تعليم الطفل اللغة أكثر من الكلمات؛ إنساناً.

لم يتمكنوا من التعلم من الشاشات. كما وجدت دراسة لجامعة كامبريدج تقارن مجموعات من الأطفال بدأوا دروساً رسمية لمحو الأمية في عمر الخامسة والسابعة، أن بدء التعلم أبكر سنتين لم يحدث أي فرق على الإطلاق في قدرة الأطفال على القراءة في سن الحادية عشرة “لكن الأطفال الذين بدأوا في عمر الخامسة طوروا سلوكيات أقل إيجابية تجاه القراءة، وأظهروا إدراكاً أضعف للنص من أولئك الذين بدأوا فيما بعد”.

هذه النتائج واضحة: إذا باشرت بفك الرموز قبل أن يكون لديك فهم أساسي للقصة، والتجربة، والإحساس والعاطفة، فإنك حين ذلك تصبح قارئاً أسوأ. وستحب القراءة بقدرٍ أقل. أرادت هيرش باسيك أن يدرك الأطفال البهجة في التعلم والنمو.

وبعيداً عن الأطفال، كان حبها الآخر الكبير هو الموسيقى. فهي عادة ما تنشد أغنية على الأخص عبر الهاتف لحفيدتها. في كتابها، اقترحت هيرش ستة مفاهيم للتعلم الحديث: التشارك، والتواصل، والمحتوى، والتفكير النقدي، والابتكار الخلاق والثقة.

السؤال الذي يكاد يطيح برؤوسنا هل يمكن أن تحل الآلات محل البشر؟

بدأ روي في الآونة الأخيرة العمل مع هيرش باسيك، بعد رؤيتها بأن الآلات قد تزيد من التعلم بين البشر، لكنها لن تحل محلها أبداً. كانت تلك الرؤية نفسها التي دفعت ديب روي وزوجته للضغط على زر “التسجيل”.

سجل الوالدان 90 ألف ساعة من الفيديو، و140 ألف ساعة من الصوت. وغطت البيانات التي جمعوها 85% من السنوات الثلاث الأولى من حياة ابنهم (و18 شهراً من حياة أخته الصغيرة). لكن تلك اللقطات الآن لم يشاهدها أحد منذ فترة طويلة.

وقال روي: “لا أزال أملك المجموعة الكاملة”، مضيفاً: “أنتظر يوم زفافه، فقط لإذهال الجميع”. عاد روي الآن إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. ومجموعته البحثية الجديدة تدعى مختبر الآلات الاجتماعية.

وأعرض خبير الروبوتات عن بناء الرجال الآليين الذين قد يتنافسون مع البشر، وبدلاً من ذلك حوَّل تركيزه إلى تنمية تعلم الإنسان.

كان السبب وراء تغيير فكره هو في حقيقة الأمر عملية تنشئة طفله. كان روي في المرة الأولى التي نطق فيها ابنه بشيء ذي معنى، يجلس معه ينظر إلى الصور.

وأوضح روي: “لقد قال fah”، مضيفاً: “لكنه كان يشير بوضوح في الواقع إلى سمكة (Fish) على الحائط كان كلانا ينظر إليها. قال: لم يكن حتى قد بلغ عامه الأول، ولكن هناك كائن واعٍ، بمعنى أنه يعكس ذاته”.

وتابع: “أعتقد، وأنا أضع جانباً قبعة الذكاء الاصطناعي خاصتي، أنه كان درساً متواضعاً”، مضيفاً: “إنه درسٌ يشبه الصدمة، هناك الكثير هنا”.

لم يعد روي واثقاً بعد الآن من أنه بإمكاننا صنع إنسان آلي مثل الإنسان الحقيقي، أو حتى أنه ينبغي علينا محاولة القيام بذلك.  لم يكن يبدو أن هناك الكثير لكسبه من خلال تطوير روبوتات تستخدم حرفياً طفولة شخص واحد، لتصبح بالضبط طفلاً شاباً بالغاً.

فالأطفال البشريون لم يتذكروا الأشياء فقط، ولكنهم ابتكروا، وصنعوا معنى جديداً، وتشاركوا المشاعر. بدأ روي في الآونة الأخيرة العمل مع هيرش باسيك، بعد رؤيتها بأن الآلات قد تزيد من التعلم بين البشر، لكنها لن تحل محلها أبداً.

 

 

 

شاهد أيضاً

تسمم غامض يصيب ستة أشخاص من عائلة واحدة في سالزبورغ

تم نقل ستة أشخاص، تتراوح أعمارهم بين 3 و72 عامًا، إلى المستشفى، مساء أمس الاثنين، …