بالفيديو – نبتة القات.. حين يروي نبات «الخراب» قصصًا سياسية من أفريقيا إلى روسيا واليمن رقم 1 فى التخزين!

يثير نبات القات الأزمات حيثما حل. بدأ رحلته من إثيوبيا إلى اليمن، وينطلق من اليمن في رحلة عالمية لا تتوقف. فما هى تلك النبتة، وما آثارها، وكيف تؤثر اقتصاديًا على بلادها

تربط كتب الجغرافيا والتاريخ الزراعة بالاستقرار، فحيثما عرف الإنسانُ الزراعةَ استقر حولها وازدهر اقتصاده، لكن نبات «جاد» في الصومالية، و«تشات» في الأمهرية الإثيوبية، و«ميرا» في اللكنة السواحيلة، أو «القات» في لغة أهل اليمن، يخبرنا أن بعض النباتات قد تجلب الحرب لا الاستقرار.

يحكي لنا الفيلم الهوليودي الصادر عام 2017 «The Pirates of Somalia» (القراصنة الصوماليون) قصةً حقيقةً حدثت للصحافي الكندي «جاي باهدور» رواها في كتابه «القراصنة الصوماليون: رحلة في عالمهم الخفي». النقطة الأساسية في الفيلم، وفي حياة باهدور في الصومال، هى اكتشاف القات. عانى البطل من صعوبة ترتيب لقاء مع زعيم القراصنة للحصول على رؤيته لأعمال القرصنة، وهنا يتدخل مترجمه الصومالي ليخبره أن الوسيلة المضمونة للحصول على المعلومات في الصومال هى مقايضتها بنبات القات.

منذ تلك اللحظة يصبح القات رفيق الصحافي الشاب في كل جولاته، فهو رخصة مروره من تفتيش سيارته، والسحر الذي يحقق له أي طلب يريده. وفي مشهدٍ فارق يُنفق الصحافي آخر أمواله لشراء أجود أنواع القات ليحصل على اللقاء المُنتظر طويلًا مع كبير زعماء القراصنة.

إثيوبيا هى الحاضنة التي انطلقت منها بذور القات إلى باقي دول القرن الأفريقي وما بعدها. من مرتفعات «هرر» في إثيوبيا بدأ القات بالتدحرج حتى وصل إلى الصومال ثم جيبوتي ثم إريتريا. بعد القرن الإفريقي تكمل النبتة رحلتها المُهلكة إلى تنزانيا وكينيا، وفي قفزةٍ درامية انتقل القات إلى سواحل أوروبا والولايات المتحدة. يجب أن تكون رحلة النبات المقطوف سريعةً، فكلما كانت الأوراق حديثة القطف كان سعرها أعلى وتأثيرها أشد.

القات.. بديل الوحدة الأفريقية المفقودة!

تمنح أوراق القات للأفارقة ما لا تمنحه لهم حياتهم المضطربة، الاسترخاء، لكن بعد زوال آثار مضغها يعود المُتعاطي إلى واقعه بصورة أسوأ من السابق، هلوسة، أرق متواصل، وفقدان تام للشهية، ومع طول مدة التعاطي تصاب المعدة بتقرّحات خطيرة تهيئ الطريق لإصابة صاحبها بسرطان المعدة القاتل.

على جانب آخر يتعرض المريء والأمعاء لأضرار القات ولاحتمالية الإصابة بأنواع شرسة من السرطان، أكثر ما يصيبه الأذى في جسد المُتعاطي هو الكبد، إذ يحمل على عاتقه تنقية جسم من سموم القات الكثيرة، لكنّ مع مرور الوقت يصير الأمر أكبر من طاقته، فيفشل في أداء المهمة أو يترك صاحبه للموت بسموم القات وسموم المبيدات المستخدمة في زراعته.

مثّل تعاطي القات نوعًا من الوحدة المفقودة في أفريقيا التي تأكلها النزاعات الأهلية والقبليّة كل يوم. في الأفراح والجنائز، في البيت والشارع، وفي المسجد والكنيسة، يتم تعاطي القات دون حرج. في أفواه الجنود أثناء النزاع، وفي أفواه العشاق حين لقائهم. أسماه بعض الصوفيين «قوت الأولياء» تبريرًا لتعاطيهم إياه في سهراتهم الدينيّة، ووصفته الدراسات الأجنية بأنّه صار تقليدًا اجتماعيًا أفريقيًا، تمامًا كالقهوة في المجتمع الغربي. يتعاطاه الأب مع ابنه، والأكاديمي مع الأمي.

الصومال أقرب البلدان إلى المنشأ الأساسي للقات، لذا فهى الأعظم تأثرًا، بحسب بعض الإحصاءات فإن ثلاثة أرباع ذكورها يتعاطون القات. في كل تجمع سكاني توجد غرفة كبيرة مخصصة لاجتماع الذكور ومضغ أوراق القات. من الحدود التي تجاوزها القات حدود الجنس، فهو لا يميّز بين الذكور والإناث. إلا أنّه لا توجد إحصاءات موثقة يمكن الاعتماد عليها للقول بنسبة الإناث اللاتي يتعاطينه، لكن المعروف في ثقافات بلدان القات أن الرجال يتعاطونه علانيةً في الشوارع، والنساء سرًا في بيوتهن.

القات.. الذهب الأخضر

صومالاند تشتري من إثيوبيا بما يقارب نصف مليار دولار سنويًا، ما يعني أن القات يمثل لإثيوبيا مصدرًا حيويًا للدخل القومي، لكن على الجانب الآخر يعني أن صومالاند تدفع ما يقارب نصف الناتج المحلي الإجمالي في شراء المخدر من إثيوبيا، كذلك جيبوتي التي تحل ثانيةً بعد صومالاند في استيراد القات الإثيوبي، ما يُفسر إذن لماذا يُطلق على القات «الذهب الأخضر» في اقتصاديات الدول المُصدّرة. فبجانب إثيوبيا توجد كينيا التي تُصدر ما قيمته 250 مليون دولار من القات سنويًا، وبهذا الرقم الضخم تتجاوز إيرادات أوراق القات إيرادات أوراق الشاي الكينيّ الذي يعتبر من أشهر ما تُنتج كينيا. لكن يخبرنا كذلك لما يمكننا أن نطلق عليه «الثقب الأسود» في اقتصاديات الدول المستوردة.

أرباح القات الهائلة تأتي من سلاسة تجارته ونقله. فهناك شركة «571» في صومالاند التي تُعتبر أكبر ناقل للقات في القرن الأفريقي، وتمتلك طائراتٍ خاصة للنقل، أما كينيا فتنقله بشكل رسمي عبر مطارات نيروبي الكبرى. الرحلات لا تنتقل داخل أفريقيا فحسب، فبريطانيا كانت محطة مهمة. محطةٌ مهمة لأنها اعتادت أن تستورد القات الكيني بقيمة 25 مليون دولار سنويًا، كذلك تستورد القات الإثيوبي بقيمة 250 مليون دولار، لكنّها «كانت» بسبب قانون حظر توريد القات الذي صدر عام 2014.

القرار يعد محاولةً بريطانية ضمن عدة محاولات عالمية للقضاء على تجارة القات، خاصةً بعد أن أعلنته منظمة الصحة العالمية مخدرًا مثل الهيروين والكوكايين، لكنّ محاولة عام 2014 فشلت مثلما فشلت المحاولات البريطانية عام 1921 في صومالاند، وعام 1940 في كينيا.

مع كل تجريم بريطاني كانت أرباح القات ترتفع نظرًا لارتفاع سعره في السوق السوداء، كما استخدم مرّوجوه هذا الحظر لجعل تعاطيه نوعًا من إعلان التمرد على الحكم الاستعماري البريطاني، وفشلت فرنسا كذلك عام 1952 في حظره في جيبوتي.

ألمانيا هى الأخرى تواجه نفس المعضلة البريطانية، خاصةً بسبب استقبالها لعدد هائل من اللاجئين والمهاجرين الأفارقة الذين نقلوا القات معهم باعتباره نوعًا من الارتباط بثقافة بلادهم، لكن ألمانيا تضع في اعتبارها أن أي إجراءات صارمة في مواجهة القات سوف تحوله من سلعة غير رائجة تراقبها الحكومة إلى سلعة مُربحة تباع في السوق السوداء بعيدًا عن أنظار السلطات.

ترحل الحكومات ويبقى القات

غير خفي أن قطاعًا من الشعب اليمني تاريخيًا كان أشد عشقًا للقات من باقي أفريقيا. حين حاولت بريطانيا حظر القات في اليمن عام 1957 ثار قطاع من اليمنيين ضدهم، وبعد الاستقلال حين حُظر القات في جنوب اليمن عام 1972 سقطت الحكومة الجنوبية لعدة أسباب ربما كان هذا من بينها. بالنسبة لبعض المحللين الغربيين فإن القات في اليمن كأنها نبتة مغلفة بتعويذة سحريّة، كلما حاولت الحكومة اقتلاعها تشبثت بالأرض أكثر، وكلما حاولت التضييق على موّرديها ومتعاطيها زادوا أكثر فأكثر.

فهى نبات الحرب في اليمن، تبدأ حرب قبلية في بعض الأحيان بسبب النزاع بين فردين تحت تأثيرها. وتحافظ على استمرار الحرب بمنح المقاتلين القوة للقتال وتغييب عقولهم قليلًا. بل وتزدهر أثناء الحروب على النقيض من جميع السلع الأخرى. فتاجر القات كتاجر السلاح، وحدهما من يستفيد من الحرب.

إحصاءات منظمة الصحة العالمية تقول أن 90% من ذكور اليمن يتعاطون القات، و50% من الإناث يفعلن، حتى أنه تم تأسيس نقابة خاصة بالمتعاطين تحت اسم «نقابة الموالعة اليمنيين». يقول مؤسسوها أن الهدف هو حماية نبات القات والدفاع عنه، ويُحاط القات في اليمن بالأساطير حول تأثيره المُنشط، لدرجة أن كثيرًا من الموظفين والباعة يقولون أنه لم يعد بإمكانهم إتمام أي عمل بدون تعاطي القات.

تجري تلك الحروب على مساحة أقل من نصف مساحة اليمن، لأن 58% من أرض اليمن مزروعة بنبات القات، ساهم في انتشاره على الأراضي اليمنيّة القانون الذي صدر عام 2000 يمنح الحكومة ضرائب بقيمة 28% من قيمة القات المُباع. لذا يزرعه أصحابه تحت نظر ورعاية السلطات المحلية، مقابل مليارات الريالات اليمنيّة. تستهلك زراعة القات أكثر من 55% من إجمالي استهلاك المياه في اليمن. ما يُظهر تهديدًا جديدًا يمثله القات، الفتك بالمياه الجوفية. هذه النسب الضخمة من أجل خدمة نسبة أقل هى 13% من سكان اليمن هم من يستفيدون منه تجارةً وزراعةً.

الكابوس الجديد.. النبتة الأفريقية تكتسح العالم

لا تتوقف الرياح المهاجرة عن حمل بذور القات وأوراقه لتُلقي بها أينما حلت. آخر محطاته كانت الهند، كان الأمر محض افتراضات من السلطات في البداية حتى تتابعت الحالات المثبتة. بعد الهند كانت روسيا، بلد في أبعد نقاط شمال الكرة الأرضية يظهر فيها مخدر ينبت في جنوب شبه الجزيرة العربية. حظرت روسيا استخدام القات وعدّته مخدرًا محرمًا باعتبار ذلك إجراءً احترازيًا دون أن تتوقع وصوله لأراضيها، لكن في 2016 قبضت السلطات الروسية على أول مجموعة أوراق من نبات القات برفقة طالب يمني مُبتعث للدراسة في موسكو.

لتبدأ السلطات الروسية بحثًا دقيقًا قادها إلى الكشف عن عشرات الحالات الأخرى من القات. القضية أثارت لغطًا عالميًا ما اضطر دولًا مثل الصين وماليزيا للاعتراف بأن القات دخل إلى أراضيها، فأصبح السؤال الواجب هو كيف دخلت تلك الأوراق عبر الإجراءات الأمنية المشددة في المطارات العالمية؟ الإجابة كشفها بعض التجار اليمنيين أن لديهم فريقًا يعمل على ابتكار وسائل تساعد على تجفيف القات مع احتفاظه بتأثيره.

متعاطي القات يرفضه إذا كان جافًا أو حتى مقطوفًا من من اليوم السابق، ويقل سعره تلقائيًا لأقل من النصف. أما التجار المصدرون، ففي سبيل تصدير بضاعتهم إلى أسواق عالمية جديدة فقد عرفوا كيف يجففونه. بعد التجفيف يتم طحنه جيدًا حتى يتشابه مع الحِنّاء. ثم يُوضع تحت مسمى الحنّاء في علب بلاستيكية غالبًا لتجاوز كاشفات المعادن.

مصر كانت وجهةً أساسية لنبات القات المجفف. في أبريل (نيسان) 2019 استطاعت السلطات المصرية ضبط  295 كيلو جرامًا من القات المجفف. تم إرسال هذا القات عبر طرود بريدية على عناوين وهمية ليتم توزيعهم في مصر. لكن تلك لم تكن الكمية الوحيدة التي أُرسلت، لذا فقد نجح القات في غزو الشوارع المصرية، بل غزاها بنوعيه الأخضر الطازج والمجفف المطحون.

ما يؤكد أن القات لن يتوقف عن خوض رحلات أخرى عبر حدود دول العالم بجواز سفرٍ مختلف يحمل اسمًا جديدًا وصورةً جديدةً في كل مرة. في دائرةٍ اقتصادية فتّاكة لا تبدو أنها ستتوقف، بل تبدو آخذة في الصعود ما سيجعل مكافحة مخدر القات الكابوس الجديد للسلطات العالمية.

شاهد أيضاً

مستشار النمسا ينفي خطط تمديد ساعات العمل

بعد تصريحات من قبل مسؤولين في حزب الشعب (ÖVP) تدعو إلى تمديد ساعات العمل، خرج …