مجلة فورين أفيرز: كيف نقضي على الفقر؟ هذه إجابة الفائزَين بنوبل في الاقتصاد

كتب أبهيجيت بانيرجي وقرينته إيستر دوفلو، الحاصلان على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2019، مقالًا في مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية حول الفقر وكيفية القضاء عليه، وعن النمو والعوامل التي تساعد عليه.

يرى الباحثان أن الخبراء لم يتوصلوا إلى عوامل بعينها تساعد على النمو، ويفضلان بدلًا من ذلك التركيز على حسن تخصيص الموارد، وتوجيهها إلى أفضل استخدام، وتقليص الإسراف؛ وهو ما يمكن أن يسفر عن تحسين جودة حياة المواطنين.

تجدر الإشارة إلى أن الباحثين فازا بجائزة نوبل، إلى جانب الأمريكي مايكل كريمر؛ لوضعهم نهجًا يهدف إلى مكافحة الفقر، ساعد ملايين الأطفال على مستوى العالم.

رغم تفاقم انعدام المساواة.. الفقراء في وضع أفضل

يستهل الباحثان المقال بلفت الانتباه إلى أنه رغم كل بواعث القلق القائمة اليوم بشأن تفاقم مشكلة عدم المساواة في البلدان الغنية، كانت العقود القليلة الماضية جيدة بشكل ملحوظ بالنسبة لفقراء العالم؛ فبين عامي 1980 و2016، تضاعف متوسط ​​دخل الخمسين في المئة الأقل دخلًا، إذ استحوذت هذه المجموعة على 12% من نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي.

كما انخفض عدد الأشخاص الذين يعيشون على أقل من 1.90 دولار في اليوم – وهي عتبة البنك الدولي «للفقر المدقع» – بأكثر من النصف منذ عام 1990، من قرابة مليارين إلى حوالي 700 مليون. ولم يسبق من قبل في تاريخ البشرية أن خرج مثل هذا العدد الكبير من الناس من براثن الفقر بهذه السرعة، بحسب ما جاء في المقال.

أيضًا كانت هناك تحسينات هائلة في جودة الحياة، حتى بالنسبة لأولئك الذين ما زالوا فقراء. فمنذ عام 1990، انخفض معدل وفيات الأمهات في العالم إلى النصف. وكذلك معدل وفيات الرضع، مما ينقذ حياة أكثر من 100 مليون طفل.

واليوم، باستثناء تلك الأماكن التي تعاني من اضطرابات اجتماعية كبرى، يحصل جميع الأطفال، البنين والبنات على حد سواء تقريبًا، على التعليم الابتدائي. حتى الوفيات الناجمة عن فيروس نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)، الذي يأس الناس من الوصول إلى علاجه يومًا ما، بلغت ذروتها بعد نهاية الألفية بفترة وجيزة، ثم تناقصت منذ ذلك الحين.

يعود الفضل في هذه المكاسب بنسبة كبيرة إلى النمو الاقتصادي. فبالإضافة إلى زيادة دخل الأفراد، سمح الناتج المحلي الإجمالي الذي يتسع باطراد للحكومات (وغيرها) بإنفاق المزيد على المدارس، والمستشفيات، والأدوية، وانتقال الأموال إلى الفقراء بشكل أو بآخر.

وحدث الكثير من انخفاض نسبة الفقر في اثنين من الاقتصادات الكبيرة اللذيْن شهدا نموًّا سريعًا، وهما الصين والهند، ولكن الآن، بدأ النمو يتباطأ في كلا البلدين، مما جعل هناك أسبابًا للقلق؛ هل تستطيع الصين والهند فعل أي شيء لتجنب التباطؤ؟ وهل تقدم هذه البلدان وصفة أكيدة يمكن للدول الأخرى أن تتبعها، بحيث يمكنها انتشال الملايين من شعوبها من براثن الفقر؟

لا توجد صيغة واحدة للنمو

ويشير الباحثان إلى حقيقة مهمة تتمثل في أن العديد من خبراء الاقتصاد أمضوا حياتهم المهنية في دراسة التنمية والفقر، غير أن الحقيقة المزعجة تتمثل في أنه حتى الآن لا توجد فكرة واضحة عن سبب توسع بعض الاقتصادات وتراجع اقتصادات أخرى. أي إنه لا توجد صيغة واضحة للنمو. وإذا كان هناك من خيط مشترك، فهو أن أسرع نمو يبدو أنه جاء من إعادة تخصيص الموارد التي تُستخدم استخدامًا سيئًا، بمعنى توجيه رأس المال والعمل نحو النموذج الأكثر إنتاجية. ولكن في نهاية المطاف، تتناقص العائدات من تلك العملية، وعندها تحتاج البلدان إلى إيجاد استراتيجية جديدة لمكافحة الفقر.

البحث عن أسباب النمو الحقيقية

في الوقت الذي يعد فيه النمو عاملًا أساسيًّا للحد من الفقر، ينبغي ألا ننخدع بعناوين «النمو السريع»، أو «الاستمرار في النمو بسرعة» فهي ليست سوى تعبيرات عن الأمل أكثر منها توصيات سياسة قابلة للتنفيذ.

خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، قضى الاقتصاديون وقت كبيرًا في مقارنة تراجع النمو في العديد من البلدان، وهو نوع من التحليل يهدف إلى التنبؤ بمعدلات النمو على أساس عدد من المتغيرات.

وبعدها يطلع الباحثون على البيانات – المتعلقة بالتعليم والاستثمار والفساد وعدم المساواة والثقافة وغيرها – في محاولة لاكتشاف العوامل التي ساعدت على النمو أو أضرت به. وكان الأمل يحدو الجميع في العثور على عدد قليل من الدعائم التي يمكن التركيز عليها لرفع النمو.

كانت هناك مشكلتان في هذا البحث:

أولًا، كما أوضح الخبير الاقتصادي ويليام إيسترلي، يمكن أن تتغير معدلات النمو في البلد نفسه تغيرًا جذريًّا من عِقد إلى آخر، دون أن يحدث تغيير كبير واضح في أي شيء آخر. على سبيل المثال، في فترة الستينيات والسبعينيات، كانت البرازيل رائدة على مستوى العالم في النمو. وبدءًا من عام 1980 تقريبًا، توقفت عن النمو لمدة عقدين (قبل أن تنمو مرة ثانية ثم تتوقف مرة أخرى).

وفي عام 1988، نشر روبرت لوكاس، أحد مؤسسي الاقتصاد الحديث، مقالًا تساءل فيه عن سبب تأخر الهند الاقتصادي، وتمنى أن تنمو بسرعة، مثل: مصر وإندونيسيا في ذلك الوقت. وكما شاءت الأقدار، كان الاقتصاد الهندي قد بدأ للتو فترة نمو سريع استمرت لثلاثين عامًا، في حين بدأ اقتصادا مصر وإندونيسيا في التراجع. بينما شهد اقتصاد بنجلاديش – التي كانت موضع سخرية على نطاق واسع بوصفها عاجزة اقتصاديًّا بعد فترة وجيزة من تأسيسها عام 1971 – نموًّا بنسبة 5% أو أكثر خلال معظم أعوام الفترة ما بين 1990 و2015. وفي أعوام 2016 و2017 و2018، تجاوز نمو بنجلاديش 7%، مما جعله من بين الاقتصادات العشرين الأسرع نموًّا في العالم. وفي كل هذه الحالات، ارتفع النمو أو انخفض دون سبب واضح.

محاولة استخلاص العوامل التي تؤدي إلى النمو هو مسعى عقيم

ثانيًا، تعد جهود اكتشاف أسباب النمو لا معنى لها. لأن كل متغير في بلد ما يعد نتاج شيء آخر ولو جزئيًّا. ولنأخذ التعليم على سبيل المثال، وهو عامل يرتبط إيجابيًّا بالنمو، فالتعليم هو نتاج فاعلية الحكومة في إدارة المدارس وتمويلها. لكن ربما تكون الحكومة الناجحة في القيام بهذه العملية جيدة أيضًا في أشياء أخرى، مثل تشييد الطرق مثلًا.

وإذا كان النمو أعلى في البلدان التي لديها أنظمة تعليمية أفضل، فهل يجب أن يُنسَب الفضل إلى المدارس التي تُثَقِّف القوى العاملة، أم إلى الطرق التي تجعل التجارة والتنقل أسهل؟ أم أن هناك عاملًا آخر مسؤولًا عن ذلك؟ ومما يزيد من تشويش الصورة، أنه من المرجح أن يشعر الناس بأنهم يجب أن يكونوا أكثر التزامًا بتعليم أطفالهم عندما يكون الاقتصاد في حالة جيدة؛ لذلك ربما يؤدي النمو إلى تحسن التعليم، وليس العكس فحسب. الأمر الذي يشير إلى أن محاولة استخلاص العوامل الفردية التي تحقق النمو هو مسعى عقيم؛ لأن المحاولة تسفر بالتبعية عن توصيات لسياسة مطابقة.

ما المتاح أمام صناع القرار إذن؟ هناك بعض الأشياء التي يجب تجنبها بوضوح: التضخم المفرط، وأسعار الصرف الثابتة المبالغ في قيمتها إلى حد كبير، ونموذج الشيوعية بأشكالها السوفيتية، أو الماوية، أو الكورية الشمالية؛ هذا النوع من السيطرة الحكومية الكلية على الشركات الخاصة، التي كانت سائدة في الهند خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي، مع ملكية الدولة لكل شيء، بدءًا من أحواض بناء السفن وحتى مصانع الأحذية. ولكن هذه النصيحة لم تعد مفيدة حاليًا؛ نظرًا إلى أنه لم يعد أحد يسعى لمثل هذه الخيارات المتطرفة.

ويوضح الباحثان الحاصلان على جائزة نوبل في الاقتصاد، أن ما تريد معظم البلدان النامية معرفته ليس ما إذا كان ينبغي لها تأميم كل الصناعة الخاصة بين عشية وضحاها، بل ما إذا كان ينبغي لها محاكاة النموذج الاقتصادي للصين أم لا. على الرغم من أن الصين تتبع اقتصاد السوق إلى حد كبير، فإن نهج البلاد تجاه الرأسمالية يختلف اختلافًا كبيرًا عن النموذج الأنجلو–  ساكسوني الكلاسيكي، الذي يتميز بوجود ضرائب منخفضة ولوائح قليلة، بل حتى من النمط الأوروبي منه، مع وجود دور أكبر للدولة.

ففي الصين، تلعب الدولة، على الصعيدين الوطني والمحلي، دورًا كبيرًا في تخصيص الأراضي، ورأس المال، وحتى العمالة. وانحرفت اقتصادات أخرى في شرق آسيا عن النموذج الرأسمالي التقليدي، وشهدت عقودًا من النمو المرتفع؛ لننظر إلى اليابان، وكوريا الجنوبية، وتايوان، ودول أخرى كلها اتبعت فيها الحكومة في البداية سياسة صناعية نشطة.

اتباع سياسات غير تقليدية يؤدي إلى نجاح مذهل

حققت كل هذه الاقتصاديات نجاحًا مذهلًا بعد اتباع سياسات غير تقليدية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا يدور حول ما إذا كانوا قد فعلوا ذلك لأن هذه كانت خياراتهم؟ أم أنهم فعلوا ذلك مرغمين؟ هل كان ما حدث مجرد حظ سعيد لدول شرق آسيا؟ أم أن هناك درسًا يجب تعلمه من نجاح هذه الدول؟ لقد دمرت الحرب العالمية الثانية الاقتصادات هناك أيضًا، لذا ربما كان النمو السريع في جانب منه مجرد عملية انتعاش.

علاوة على ذلك، ما عناصر التجربة الصينية التي يفترض أن تحاكيها البلدان الأخرى؟ هل يجب أن يبدأوا من حيث بدأت الصين في عهد دينج شياو بينج؛ اقتصاد فقير للغاية مع تعليم ورعاية صحية متميزين نسبيًّا، وتوزيع دخل ثابت للغاية؟ أم أن يبدأوا من نقطة الثورة الثقافية؛ وهي محاولة للقضاء على مزايا النخب ووضع الجميع أمام فرص متكافئة؟ أم يجب أن يبدأوا مع الأربعة آلاف سنة الماضية من التاريخ الصيني؟ أولئك الذين يبشرون بتجربة اقتصادات شرق آسيا لإثبات أفضلية نهج ما عن غيره لا شك أنهم يحلمون؛ فلا توجد وسيلة لإثبات أي شيء من هذا القبيل، بحسب رأي الكاتبيْن.

ببساطة، لا توجد وصفة مقبولة لكيفية جعل البلدان الفقيرة تحقق نموًّا دائمًا. حتى الخبراء يبدو أنهم قبلوا هذا. في عام 2006، طلب البنك الدولي من الخبير الاقتصادي مايكل سبنس قيادة لجنة حول النمو الاقتصادي. وفي تقريرها النهائي، اعترفت اللجنة بأنه لا توجد مبادئ عامة للنمو، وأنه لا توجد حالتان للتوسع الاقتصادي متشابهتان تمامًا. ووصف إيسترلي جهود اللجنة بعبارات موجزة: «بعد عامين من العمل من قبل اللجنة المكونة من 21 من قادة وخبراء العالم، ومجموعة عمل مكونة من 11 عضوًا، و300 خبير أكاديمي، و12 ورشة عمل، و13 استشارة، وميزانية قدرها 4 ملايين دولار، تمثلت إجابة الخبراء عن سؤال حول كيفية تحقيق نمو مرتفع تقريبًا فيما يلي: نحن لا نعرف، ولكن نثق في قدرة الخبراء على التوصل إلى ذلك».

الأمور سهلة المنال والتحقيق

غير أن الاقتصاديين تعلموا شيئًا ما من التقدم والتراجع بشأن مصادر النمو، بحسب ما يرى المقال، فقد توصلوا إلى أن التحولات جزء مهم لكنه لم يجرِ التركيز عليه في قصة النمو. كان أحد المبادئ الأساسية لنظرية النمو التقليدية هو أن التحولات كانت غير مهمة؛ لأن قوى السوق ضمنت أن الموارد ستوجه بسلاسة وبسرعة لاستخدامها استخدامًا أكثر إنتاجية.

هذا يتمثل في أنه يجب أن تزرع أكثر قطع الأراضي خصوبة على نحو أكثر كثافة، ويجب أن ينتهي الأمر بأفضل العمال في أكثر الشركات ربحية، ويجب على المستثمرين أن يعهدوا برؤوس أموالهم إلى رواد الأعمال الواعدين أكثر.

لكن هذا الافتراض غالبًا ما يكون خاطئًا في اقتصاد معين، لاسيما حينما لا توجه الموارد إلى أفضل استخدام. هذا صحيح خاصة في البلدان النامية، حيث تعمل العديد من الأسواق، مثل أسواق الائتمان أو الأراضي أو العمل، بشكل سيئ. وغالبًا، لا تكمن المشكلة في عدم توافر المواهب والتكنولوجيا ورأس المال، بل في كون الاقتصاد لا يستخدمها على أفضل وجه.

فمثلًا، بعض الشركات بها عدد من الموظفين يفوق ما تحتاج إليه، في حين تعجز شركات أخرى عن توظيف عمال. وبينما تستخدم بعض الشركات أحدث تكنولوجيا، لا تستخدمها شركات أخرى. وقد لا يتمكن بعض رواد الأعمال من تمويل أفكارهم الرائعة، بينما يواصل آخرون ممن لا يتمتعون بالمواهب أعمالهم. هذا ما يسميه الاقتصاديون «سوء التخصيص».

الموارد لا توجه دائمًا إلى أفضل استخدام لها

وإذا كان سوء التخصيص يضعف النمو، فذلك يعني أن إعادة التخصيص يمكن أن تُحَسِّنه، بحسب المقال، ففي السنوات الأخيرة، حاول الاقتصاديون تحديد مقدار النمو الذي يمكن أن يأتي من توجيه الموارد إلى أفضل استخدام لها.

على سبيل المثال، وجد كل من تشانج–تاي هسيه (Chang–Tai Hsieh) وبيتر كلينو (Peter Klenow) أن مجرد إعادة تخصيص العوامل في صناعات معينة، مع الاحتفاظ برأس المال والعمالة ثابتين، يمكن أن تزيد الإنتاجية في الصين بنسبة تتراوح بين 30 إلى 50%، وفي الهند بنسبة 40 إلى 60%. وإذا ما أعيد التخصيص عبر شرائح أوسع من الاقتصاد، فإن الإيراد سيكون أكبر.

بمعنى آخر، من الممكن تحفيز النمو فقط عن طريق إعادة تخصيص الموارد الحالية لاستخدامات أكثر ملاءمة. وإذا بدأت أي دولة باستخدام مواردها استخدامًا شديد السوء، مثلما فعلت الصين قبل دينج، أو الهند في أيام نظام «التوجيهية» (نظام اقتصادي تمارس فيه الدولة تأثيرًا توجيهيًّا قويًّا على الاستثمار) المفرطة؛ فإن الفوائد الأولى للإصلاح قد تأتي ببساطة من تسخير الكثير من الموارد المستخدمة استخدامًا سيئًا. وهناك العديد من الطرق لتحسين التخصيص، من الابتعاد عن الزراعة الجماعية مثلما فعلت الصين في عهد دينج، إلى الجهود التي بذلتها الهند في التسعينيات لتسريع حل النزاعات المتعلقة بالديون، وبالتالي جعل أسواق الائتمان أكثر كفاءة.

نهاية عصر النمو المذهل قد تكون قريبة

يضيف المقال أنه على الجانب الآخر، تبدأ المكاسب في التناقص عند مرحلة معينة. وهناك مشكلة حالية تتمثل في أن العديد من الاقتصادات النامية وصلت الآن إلى هذه النقطة. ويتعين عليهم وعلى بقية العالم أن يقبلوا هذه حقيقة غير المريحة التي مفادها أن «عصر النمو المذهل من المرجح أنه يسير إلى نهايته».

لننظر في مسار الصين. حتى الآن، تخلصت البلاد من أكثر أشكال سوء التخصيص لديها. وعلى نحو يتسم بالحكمة، أعادت استثمار مكاسب النمو الناتج في استثمارات جديدة، ومع نمو الإنتاج، باعت منتجاتها في الخارج، مستفيدة من حاجة العالم التي لا تنتهي على ما يبدو إلى الصادرات. لكن هذه الاستراتيجية سارت في مجراها حتى نهايته أيضًا: الآن، بعد أن أصبحت الصين هي أكبر دولة مصدرة في العالم، فإنها لا تستطيع الاستمرار في جعل صادراتها تنمو بوتيرة أسرع بكثير من نمو الاقتصاد العالمي.

ربما تلحق الصين في نهاية المطاف بالإنتاج الأمريكي من حيث نصيب الفرد، لكن تباطؤ نموها يعني أن الأمر سيستغرق وقتًا طويلًا. إذا انخفض النمو الصيني إلى 5% سنويًّا، وهو أمر لا يصدق، وظل عند هذا المستوى، وهو أمر ربما يكون مثيرًا للتفاؤل، وإذا استمر النمو الأمريكي في الارتفاع بحوالي 1.5%، فسوف يستغرق الأمر ما لا يقل عن 35 عامًا حتى تتمكن الصين من اللحاق بالولايات المتحدة من حيث دخل الفرد.

في غضون ذلك، من المنطقي أن تقبل السلطات الصينية بحقيقة أن النمو السريع هو أمر مؤقت، وهو ما يبدو أنها تفعله. ففي عام 2014، تحدث الرئيس الصيني شي جين بينج عن التكيف مع «الوضع الطبيعي الجديد» للنمو البطيء.

وفسر الكثيرون معنى هذا التصريح بأنه: حتى لو انتهت أيام النمو السنوي المكونة من رقمين، فإن الاقتصاد الصيني سيظل يتوسع بمعدل 7% سنويًّا في المستقبل المنظور، ولكن حتى هذا ربما يكون مفرطًا في التفاؤل؛ إذ يتوقع صندوق النقد الدولي أن يهبط نمو الصين إلى 5.5% بحلول عام 2024.

ويوضح الباحثان أن هناك قصة مماثلة تحدث في الهند. فمنذ عام 2002 تقريبًا، شهد قطاع الصناعات التحويلية في البلاد تحسينات كبيرة في تخصيص الموارد، وطورت المصانع تقنيتها بسرعة، وتدفق رأس المال على نحو متزايد إلى أفضل الشركات والمصانع. ونظرًا إلى أن التحسينات بدت غير مرتبطة بأي تغيير في السياسة، تحدث بعض الاقتصاديين عن «معجزة التصنيع الغامضة في الهند». ولكنها لم تكن معجزة، بل مجرد تحسن بسيط عن نقطة البداية شديدة السوء.

ويمكن للمرء أن يتخيل تفسيرات مختلفة لتلك الطفرة. فربما كان هناك تحول بين الأجيال، إذ انتقلت السيطرة على الشركات من الآباء إلى أبنائهم، الذين تلقى الكثير منهم تعليمه في الخارج، وكانوا في الغالب أكثر طموحًا وذكاءً فيما يتعلق بالتكنولوجيا والأسواق العالمية، أو ربما كان تأثير تراكم الأرباح المتواضعة، والذي سهل في نهاية المطاف دفع ثمن التحول إلى مصانع أكبر وأفضل.

وبغض النظر عن السبب الدقيق، من الأفضل فهم النهضة الاقتصادية في الهند على أنها نتيجة لتصحيح سوء التخصيص، وهو النمو الذي يمكن أن يتحقق بسهولة.

فخ الاقتصادات متوسطة الدخل.. المثال الهندي

هذا النوع من النمو لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. فمع تخلي الاقتصاد عن أسوأ مصانعه وشركاته، من الطبيعي أن تتقلص المساحة المتاحة لمزيد من التحسن.

ويوضح الباحثان أنه يبدو أن الهند تواجه اليوم احتمال حدوث تباطؤ شديد. إذ خفَّض كل من صندوق النقد الدولي، وبنك التنمية الآسيوي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تقديرات النمو في الهند للفترة 2019– 2020 إلى حوالي 6%. وأشار آخرون إلى أن الاقتصاد الهندي ربما تباطأ بالفعل؛ إذ جادل آرفيند سوبرامانيان، كبير المستشارين الاقتصاديين لنيودلهي من 2014 إلى 2018، بأن التقديرات الرسمية بالغت في تقدير النمو في البلاد بما يصل إلى 2.5 نقطة مئوية في السنوات الأخيرة. وربما يتعافى النمو في الهند، ولكن في مرحلة ما، سوف يتباطأ إلى الأبد.

في الواقع، من الممكن أن تعلق الهند في «فخ الدخل المتوسط» المروع، حين تبدأ الاقتصادات سريعة النمو في التعثر. ولن تكون الهند وحيدة في هذا الصدد: وفقًا للبنك الدولي، من بين 101 من الاقتصادات المتوسطة الدخل في عام 1960، أصبح 13 منها فقط ذات دخل مرتفع بحلول عام 2008.

لسوء الحظ، مثلما لا يعرف الاقتصاديون الكثير عن كيفية تحقيق النمو، فإنهم لا يعرفون السبب الذي يجعل بعض البلدان، مثل المكسيك، عالقة في فخ الدخل المتوسط، ​​ولماذا لا تشهد بعض الدول مثل كوريا الجنوبية، الوضع ذاته.

ويشير المقال إلى أن أحد المخاطر الحقيقية للغاية هو أنه في أثناء محاولة التمسك بالنمو السريع، تتحول الدول التي تواجه تباطؤًا حادًّا في النمو نحو سياسات تؤذي الفقراء الآن باسم النمو المستقبلي. وفي محاولة للحفاظ على النمو، فسرت العديد من الدول الوصفة التي تدعوها لأن تكون صديقة للأعمال، على أنها ترخيص لسن جميع أنواع السياسات المناهضة للفقراء والمؤيدة للأغنياء، مثل: التخفيضات الضريبية للأثرياء، وعمليات الإنقاذ للشركات.

كان هذا هو التفكير في الولايات المتحدة إبان عهد الرئيس رونالد ريجان، وفي المملكة المتحدة تحت قيادة رئيسة الوزراء مارجريت تاتشر. غير أنه إذا كانت تجربة هذين البلدين تمثل أي دليل للتوجيه، فإن مطالبة الفقراء بربط الأحزمة على أمل أن تصلهم هبات الأثرياء في نهاية المطاف هو أمر لا يخدم النمو، بل حتى أقل من ذلك بالنسبة للفقراء: في البلدين، لم يتعاف النمو على الإطلاق، ولكن ارتفع معدل انعدام المساواة إلى عنان السماء

وعلى المستوى العالمي، كانت المجموعة الوحيدة التي حققت أداءً أفضل من أفقر 50% بين عامي 1980 و2016 هي الفئة التي تتربع على القمة ولا تزيد عن 1% – وهم الأثرياء في الدول الغنية بالفعل، إلى جانب عدد متزايد من فاحشي الثراء في العالم النامي – الذين استحوذوا على 27% من النمو الكلي خلال تلك الفترة. أما نسبة الـ49% من الأشخاص الذين يلونهم، وهي الفئة التي تضم الجميع تقريبًا في الولايات المتحدة وأوروبا، إنما تراجعوا وأصيبت دخولهم بالركود طوال تلك الفترة.

ويقول الباحثان إن انتشار انعدام المساواة في الاقتصاديات التي لم تعد تنمو هي أخبار سيئة للنمو في المستقبل؛ إذ تؤدي ردود الفعل السياسية إلى انتخاب قادة شعبويين يروجون لحلول إعجازية نادرًا ما تنجح، وغالبًا ما تؤدي إلى كوارث على غرار فنزويلا.

وفي البلدان الغنية، تكون النتائج واضحة بالفعل، من الحواجز التجارية المتزايدة في الولايات المتحدة إلى فوضى البريكست في المملكة المتحدة، حتى صندوق النقد الدولي، الذي كان يومًا ما حصنًا للمبدأ التقليدي «النمو أولًا»،  أصبح يدرك أن التضحية بالفقراء لتشجيع النمو هي سياسة سيئة. وهو يطلب الآن من فرقه الخاصة بهذه البلدان أن تأخذ انعدام المساواة في الاعتبار عند إسداء المشورة.

النمو ليس الغاية.. بل وسيلة

من المحتمل أن يتباطأ النمو، على الأقل في الصين والهند، وقد لا يكون هناك ما يستطيع أي شخص أن يفعله حيال ذلك. وربما يستمر النمو في بلدان أخرى، لكن لا يمكن لأحد التنبؤ بالمكان أو السبب. والأنباء السارة هو أنه حتى في ظل غياب النمو، هناك طرق لتحسين مؤشرات التقدم الأخرى.

ويشير المقال إلى أن ما يحتاج صناع السياسة إلى تذكره، هو أن الناتج المحلي الإجمالي هو وسيلة لتحقيق غاية، وليس غاية في حد ذاته. إنه وسيلة مفيدة، بلا شك، لاسيما عندما توفر الوظائف، أو ترفع الأجور، أو تزيد الميزانيات بحيث يمكن للحكومة إعادة توزيع الثروات. ولكن الهدف النهائي يظل هو تحسين جودة الحياة، وخاصة بالنسبة للأشخاص الأسوأ حالًا.

جودة الحياة

يشرح المقال ما المقصود بـ«جودة الحياة»، فهي تعني ما هو أكثر من مجرد الاستهلاك، وعلى الرغم من أن الحياة الأفضل تتعلق جزئيًّا بالقدرة على استهلاك المزيد، فإن معظم البشر، حتى الفقراء للغاية، يهتمون بما هو أكثر من ذلك. إنهم يريدون أن يشعروا بأنهم ذوو أهمية ومحل احترام، وأن يُبقوا والديهم بصحة جيدة، وأن يُعَلِّموا أطفالهم، وأن تُسمَع أصواتهم، وأن يسعوا لتحقيق أحلامهم.

ربما يساعد الناتج المحلي الإجمالي المرتفع الفقراء على تحقيق الكثير من هذه الأشياء، لكنه ليس سوى طريقة واحدة لتحقيق ذلك، وهي ليست الأفضل دائمًا. في الواقع، تختلف جودة الحياة اختلافًا كبيرًا بين البلدان المتماثلة في مستويات الدخل: على سبيل المثال، سريلانكا لديها الناتج المحلي الإجمالي للفرد ذاته كما هو في جواتيمالا، لكن معدلات وفيات الأمهات والرضع والأطفال أقل بكثير.

مثل هذه الفوارق لا ينبغي أن تكون مفاجأة كبيرة. إذا نظرنا إلى الوراء، سنجد أن العديد من النجاحات المهمة التي تحققت خلال العقود القليلة الماضية لم تكن نتيجة للنمو الاقتصادي، ولكن كانت نتيجة للتركيز المباشر على تحسين نتائج معينة، حتى في البلدان التي كانت وما تزال فقيرة للغاية.

على سبيل المثال، انخفض معدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة كثيرًل في جميع أنحاء العالم، حتى في بعض البلدان الفقيرة للغاية التي لم تنمُ اقتصاداتها بسرعة كبيرة. يرجع السبب في ذلك إلى تركيز صناع السياسة على رعاية الأطفال حديثي الولادة، والتطعيم، والوقاية من الملاريا. يمكن أن يطبق النهج ذاته على أي من العوامل الأخرى التي تعمل على تحسين جودة الحياة، سواء كان ذلك هو التعليم، أو المهارات، أو تنظيم المشروعات، أو الصحة. ويجب أن ينصب التركيز على تحديد المشكلات الرئيسية ومعرفة كيفية حلها.

هذا عمل يحتاج إلى التحلي بالصبر؛ لأن إنفاق الأموال في حد ذاته لا يوفر بالضرورة التعليم الحقيقي أو الصحة الجيدة. ولكن على عكس الحال مع النمو، يعرف الخبراء بالفعل كيفية إحراز تقدم في هذه المجالات.

من المزايا الكبيرة للتركيز على التدخلات المحددة بوضوح أن هذه السياسات لها أهداف قابلة للقياس، وبالتالي يمكن تقييمها مباشرة. ويمكن للباحثين إجراء تجارب بشأنها والتخلي عن التجارب التي لا تنجح، وتحسين تلك التي تنجح.

يتابع الباحثان أن «هذا هو ما أنفقنا جزءًا كبيرًا من حياتنا المهنية فيه، وما يقوم به المئات من الباحثين وصانعي السياسات الآن روتينيًّا بمساعدة منظمات مثل «معمل عبد اللطيف جميل للتطبيقات العلمية لمكافحة الفقر» أو «J–PAL» (الشبكة التي بدأناها في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا)، و«ابتكارات للعمل على مكافحة الفقر»، وهي مجموعة أسسها الخبير الاقتصادي دين كارلان».

وهكذا، وعلى الرغم من أن أحدًا لا يعرف كيف يمكنه تحويل كينيا إلى كوريا الجنوبية، فإن عمل جيسيكا كوهين (Jessica Cohen) وباسكالين دوباس (Pascaline Dupas)، على سبيل المثال، يعرفنا أن التوزيع الهائل للناموسيات المجانية المعالجة بمبيدات الحشرات هو الطريقة الأكثر فعالية لمكافحة الملاريا.

وفي سلسلة من التجارب العشوائية، وجدت هاتان الباحثتان أن فرض رسوم على الأشخاص مقابل الحصول على الناموسيات، والتي كان يُعتقد في السابق أنها تجعل استخدام الناموسيات أكثر احتمالًا، قلل في الواقع من استخدامها، وهو دليل أقنع منظمات التنمية الرئيسية في نهاية الأمر بالتخلي عن الرسوم.

وبين عامي 2014 و2016، وُزِّع ما مجموعه 582 مليون ناموسية معالجة بمبيدات الحشرات على مستوى العالم. ومن بين هذه الناموسيات، قدم 75% من خلال حملات التوزيع الجماعية للناموسيات المجانية، مما أدى إلى إنقاذ عشرات الملايين من الأرواح.

ما بعد النمو

خلاصة القول هي أن المكونات الحقيقية للنمو الاقتصادي المستمر تظل غامضة. ولكن هناك الكثير مما يمكن فعله للتخلص من مصادر الإهدار البشع في اقتصادات البلدان الفقيرة، والتخلص من المعاناة بين شعوبها. فالأطفال الذين يموتون بسبب أمراض يمكن الوقاية منها، والمدارس التي لا يحضر إليها المعلمون، ونظم المحاكم التي تستغرق وقتًا غير نهائي للفصل في القضايا؛ جميعها بلا شك تقوض الإنتاجية وتجعل الحياة بائسة. قد لا تدفع الحلول لمثل هذه المشكلات البلدان إلى نمو أسرع بشكل دائم، ولكنها يمكن أن تحسن رفاهية مواطنيها تحسينًا كبيرًا.

علاوة على ذلك، على الرغم من أن أحدًا لا يعرف متى ستتحرك قاطرة النمو في بلد معين، وإذا حدث ذلك وعندما يحدث من المرجح أن يتمكن الفقراء من القفز إلى القاطرة إذا كانوا يتمتعون بصحة جيدة، ويمكنهم القراءة والكتابة، ويمكنهم التفكير فيما يتجاوز ظروفهم المباشرة. قد لا يكون من قبيل المصادفة أن يكون العديد من الفائزين في العولمة من البلدان الشيوعية التي استثمرت بكثافة في رأس المال البشري لشعوبها لأسباب أيديولوجية (مثل الصين وفيتنام)، أو الأماكن التي اتبعت سياسات مماثلة لأن الشيوعية كانت تهددها (مثل كوريا الجنوبية وتايوان).

ويختتم الباحثان مقالهما بالتأكيد على أن أفضل رهان بالنسبة لبلد نامٍ مثل الهند هو محاولة رفع مستويات المعيشة بالموارد التي لديها بالفعل؛ مثل الاستثمار في التعليم والرعاية الصحية، وتحسين أداء المحاكم والبنوك، وتشييد طرق أفضل ومدن ملائمة أكثر للعيش فيها. وينطبق المنطق ذاته على صناع السياسات في البلدان الغنية، الذين ينبغي أن يستثمروا مباشرة في رفع مستويات المعيشة في البلدان الفقيرة.

وفي غياب وجود علاج سحري من أجل التنمية، فإن أفضل طريقة لإحداث تحول عميق في حياة الملايين ليست أن تسعى دون جدوى لتعزيز النمو، بل أن تركز مباشرة على الشيء الذي من المفترض أن يحسنه النمو، وهو رفاهية الفقراء.

شاهد أيضاً

مستشار النمسا ينفي خطط تمديد ساعات العمل

بعد تصريحات من قبل مسؤولين في حزب الشعب (ÖVP) تدعو إلى تمديد ساعات العمل، خرج …