ماما ميركل تغادر بعد 21 سنة عالم السياسة

مثل الدماء في الجسد، انتشرت نجاحات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في جميع سياسات بلادها على مدى الثمانية عشر عامًا الأخيرة.

ولكن “أم اللاجئين” كما لُقبت بسبب سياسة الأذرع المفتوحة نحو اللاجئين، اختارت السقوط الآمن من على منحدر السياسة الألمانية، وأعلنت اليوم الإثنين، أن الولاية الحالية لها ستكون الأخيرة في منصبها كمستشارة لألمانيا.

ذكرت ميركل أنها اتخذت قرارها قبل العطلة الصيفية واعتزمت عدم الترشح مجددا لرئاسة حزبها المسيحي الديمقراطي، وذلك عقب الخسائر التي لحقت بالتحالف المسيحي في انتخابات البرلمان المحلي بولايتي بافاريا وهيسن.

وأعيد انتخاب ميركل كمستشارة في الرابع عشر من مارس الماضي، للمرة الرابعة على التوالي، لكنها حصلت على 364 صوتًا من أصل 688 صوتًا بالبرلمان.

كما واجهت تحديات كبيرة واحتاجت ستة أشهر لإجراء مفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة في تحالف بين المحافظين والاشتراكيين الديمقراطيين.

وبعد الهزيمة الكبيرة التي مني بها حزبها في انتخابات البرلمان المحلي بولاية هيسن، قررت ميركل الانسحاب من الحياة السياسية بالكامل بنهاية ولايتها الحالية بحلول عام 2021.

ومن المتوقع أن يتم اختيار من يخلف ميركل خلال المؤتمر العام للحزب المسيحي الديمقراطي مطلع ديسمبر المقبل في مدينة هامبورج.

البداية

خرجت أنجيلا لتقابل صديقتها في نادِ للساونا بالشطر الشرقي من برلين “كما تفعل مساء كل خميس”. جمعتها بوالدتها مكالمة هاتفية قبل ذلك اللقاء وأخبرتها عن شائعات سقوط الجدار الذي يمنع سكان برلين الشرقيين عن الوصول إلى الجانب الغربي والعكس. اعتبرت الأخيرة أن الأمر مجرد دعابة من ابنتها.

“انتبهي يا أمي هناك شيء يحدث”.. قالتها السيدة في الخامسة والثلاثين من عمرها لتنه المكالمة الهاتفية، وتذهب إلى صديقتها.

سقط جدار برلين في يوم تلك المكالمة، الموافق 9 نوفمبر 1989. وانتبه العالم -وليس أمها فقط -إلى ما جرى وغير مسار التاريخ.

علمت السيدة، أستاذة الفيزياء في أكاديمية برلين الشرقية للعلوم، أن مستقبل آخر سيكون لبرلين وألمانيا كلها بعد هذا السقوط. لكن ما لم تعلمه هو أنه وبعد 28 عامًا ستطلق حملتها الانتخابية للترشح لولاية رابعة كمستشارة لألمانيا بشطريها الشرقي والغربي.

النشأة

أنجيلا ميركل، المولودة لكاهن يتبع الكنيسة اللوثرية، انتقلت مع أسرتها إلى شرق ألمانيا من مدينة هامبورج في الغرب وهي لم تبلغ أسابيع قليلة وتحديدًا في عام 1954.

ومع نشأتها في الشطر الشرقي الذي شهد أعتى الأنظمة الأمنية في تلك الحقبة، تعلمت أن تبقي أوراقها وأراءها مخبأة مثل أغلب من عاشوا في هذه الفترة.

ويقول صديقها في المدرسة عن تجربتها تحت القبضة الأمنية القوية وبعدها، إن ميركل كمن كانت مصابة بشيء من الشلل المؤقت، فقط كالورود التي تنتظر سقوط أمطار الشتاء حتى تبدأ في النمو بعد ذلك.

ويضيف هارتموت هوهينسيه، في فيلم تسجيلي عن الزعيمة الألمانية من إنتاج بي بي سي، إن أزهار ميركل السياسية بدأت في النمو مع سقوط جدار برلين.

الفيلم الوثائقي ذكر أيضًا أن انهيار الجدار صنع هزة كبيرة في السياسات الألمانية، فتحولت محادثات المقاهي إلى مظاهرات في الشوارع، والحركات أصبحت أحزاب سياسية، والأفراد حاولوا السيطرة على مصير بلادهم لأول مرة.

هنا قررت ميركل خوض التجربة، وتركت معامل الفيزياء لتذهب إلى أروقة السياسة التي لم تخرج منها حتى الآن.

اسمها الأصلي هو أنجيلا كاسنر، ومع زواجها من زميلها أولريتش ميركل عام 1977 احتفظت باسمه إلى الآن برغم طلاقهما بعد الزواج بأربع سنوات فقط.

السياسة

بدأت خطواتها الأولى في السياسة مع انخراطها عام 1989 في حركة الديمقراطية النامية (في ألمانيا الشرقية)، ثم صارت متحدثة رسمية باسم حكومة ألمانيا الشرقية بعد أول انتخابات ديمقراطية عقب انهيار جدار برلين.

وقبل شهرين من الوحدة الألمانية وتحديدًا في عام 1990، انضمت إلى الحزب الديمقراطي المسيحي، وبعد عام واحد أصبحت الأستاذة في الفيزياء وزيرة للمرأة والشباب في حكومة المستشار الراحل مؤخرًا، هيلموت كول.

وبعد 10 سنوات في الحكومة، اختيرت عام 2000 لتقود حزبها الديمقراطي، ثم صارت أول امرأة تتولى منصب المستشارية في ألمانيا بعد انتخابها عام 2005.

خطواتها كانت سريعة وواثقة، وذلك على العكس من طفولتها. فكانت في طفولتها “حمقاء في حركتها” وفي سن الخامسة كانت نادرًا ما تسير على منحدر دون أن تسقط، بحسب تحقيق مطول لمجلة نيويوركر نقل فيه أصدقاء وأشخاص أخرون مروا في حياة ميركل.

رأى كثيرون أنها بلا كاريزما وليست مؤثرة، وقال سياسيون ألمان بينهم المستشار السابق جيرهارد شرودر، إنهم كانوا يضحكون “مثل الأطفال في ساحة اللعب” في بعض الأحيان حينما ألقت كلماتها في البرلمان الألماني آنذاك.

لكن ميركل وبشخصيتها القوية استطاعت أن تحصد الأغلبية العظمى في الانتخابات البرلمانية وقادت تحالف بين حزبها الديمقراطي المسيحي وبين الديمقراطي الاجتماعي لمرتين من دوراتها الثلاث في الحكم.

وخلال الأزمة المالية العالمية، حملت ميركل على عاتقها السعي نحو إجراءات التقشف في دول جنوب أوروبا، واتهمها منتقدون خلال تلك الفترة بإضعاف الثقة في منطقة اليورو.

لكن على الجانب الآخر باتت ألمانيا هنا المتحكم الأول في أزمة حزم المساعدات لدول الاتحاد الأوروبي، وأصبحت ميركل القوة الدافعة لجهود الاتحاد الأوروبي نحو إعادة الثقة في العملة الأوروبية.

وبالطبع لم يعجب مواطنو دول الجنوب وبينهم اليونان وإسبانيا بفرض هذه الإجراءات التقشفية، ليحملوا صور ميركل في مظاهراتهم ولكن مرسوم عليها شارب الزعيم النازي أدولف هتلر.

أما في الداخل الألماني فكانت مطمئنة بدرجة كبيرة، فقد نجحت في تخفيض معدلات البطالة وتصاعد قيمة الصادرات الألمانية لسنوات معززة الرخاء بين مواطني ألمانيا.

الأذرع المفتوحة

واجهت ميركل تحديًا من الأصعب في تاريخها السياسي بعدما أصرت على سياسة الأبواب المفتوحة في مواجهة موجات المهاجرين إلى أوروبا، وأصبحت معشوقة للاجئين السوريين وغيرهم ممن غادروا الحروب في الشرق الأوسط باحثين عن ملاذ جديد في أوروبا.

تنامى اليمين المتطرف مع تزايد المهاجرين وارتفاع الهجمات الإرهابية في أوروبا، لكن ميركل أصرت على سياستها لتواجه تراجعًا في شعبيتها في الاستفتاءات لكنه لم يمنع حزبها من الفوز بالانتخابات، ولم يمنع أيضًا من ترشحها لفترة جديدة كمستشارة ألمانية.

ووصفت ميركل الانتخابات الماضية، بأنها “ليست كأي انتخابات أخرى منذ الوحدة الألمانية”.

وبالفعل تراجعت شعبية المستشارة الألمانية بسبب تلك السياسة، واحتاجت لأشهر طويلة كي تستطيع تكوين الحكومة الجديدة، ومع تراجع نتائج حزبها في الانتخابات المحلية بولايتي بافاريا وهيسن، قررت إعلان النهاية لحياتها السياسية.

وكما دخلت متعثرة في بدايتها وسط شكوك في قدراتها، خرجت ميركل أيضًا بعد تعثر، لكنها بين تلك السنوات صنعت تاريخًا سياسيًا كبيرًا في بلادها.

ويمكن وصف دور أنجيلا ميركل في السياسة الألمانية كما قال عنها الكاتب، ديرك كوربجفيت (Dirk Kurbjuweit)، في كتابه “لا يوجد بديل”، بأن نجاح ميركل موجود في دماء كل السياسات الألمانية.

 

 

شاهد أيضاً

كشفت هيئة الإحصاء النمساوية المركزية اليوم الخميس عن ارتفاع حالات الفقر بين المواطنين بسبب الازمة …