إثيوبيا فرضت الأمر الواقع في صراع السد.. ماذا ترد مصر بعد أن فقدت مستقبلها؟

لا صوت يعلو بين المصريين على صوت أزمة المياه، في ظل تمكن إثيوبيا من تنفيذ مخططاتها بشأن سد النهضة من خلال “المفاوضات اللانهائية”، وسط تساؤلات حول إذا ما كانت مصر قد خسرت نزاع السد؟

صحيفة The Independent البريطانية تناولت “النزاع الخطير بشأن السد الإثيوبي على النيل”، في تقرير لها رصد ما وصلت إليه الأمور، في ظل ما أسفرت عنه جلسة مجلس الأمن الدولي، متوقعة أن “مصر قد تخسر النزاع وتفقد مستقبلها“.

وانطلق تقرير الصحيفة من أنه لا يبدو أن “المفاوضات الدائمة”، كما يسميها الكثيرون في مصر والسودان، مع إثيوبيا على وشك الانتهاء. ومع استمرار ارتفاع منسوب المياه ببطء خلف سد النهضة الإثيوبي الضخم على النيل الأزرق، يتزايد الإحباط بين المسؤولين في عاصمتَي دولتَي المصب.

إثيوبيا فرضت الأمر الواقع

مرَّت عشر سنواتٍ منذ أن دشَّنَت أديس أبابا بناء مشروع سد النهضة. وانطلقت المفاوضات بين الدول الثلاث بعد فترةٍ وجيزة. والآن، وصلت المحادثات اللانهائية إلى طريقٍ مسدود.

صار أكبر مشروعٍ للطاقة الكهرومائية في إفريقيا مصدر نزاعٍ منذ ذلك الحين. تقول إثيوبيا إن السد ضروريٌّ من أجل توليد الكهرباء وتحسين حياة 115 مليون نسمة يعيش الكثيرون منهم في الظلام. أما مصر، فتخشى من تأثير السد على حصتها البالغة 55.5 مليار متر مكعب من المياه، بينما السودان تساوره مخاوف بشأن تنظيم تدفُّق المياه إلى سدوده.

ويمتد سد النهضة، الذي تبلغ تكلفته 4.8 مليار دولار، على مجرى النيل على بُعدِ أميالٍ قليلة من حدود السودان. وبمجرد امتلاء خزان السد، سوف تُنشأ بحيرة اصطناعية من 74 مليار متر مكعب من المياه. ويهدف ضغط المياه إلى تشغيل 16 توربيناً، وتخطِّط إثيوبيا لتوليد 6 آلاف ميغاوات من الكهرباء من خلال هذه التوربينات

 

بدأت إثيوبيا المرحلة الأولى لملء السد في أكتوبر/تشرين الأول عام 2020. وأعلنت حكومتها يوم 5 يوليو/تموز الجاري بدء المرحلة الثانية، الأمر الذي أثار حفيظة القاهرة والخرطوم، اللتين ترغبان في التوصُّل إلى اتفاقٍ مُلزمٍ قانوناً بشأن ملء السد وتشغيله أولاً قبل الشروع في مرحلة الملء الثاني. وقال رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، الذي فاز بولايةٍ ثانية في الانتخابات العامة يونيو/حزيران الماضي، إن بلاده ستنطلق إلى الأمام وتملأ السد دون التوقيع على الاتفاق.

وشهدت طاولة مجلس الأمن الدولي مناقشة غاضبة، إذ حذَّر وزير الخارجية المصري، سامح شكري، بصوتٍ ساخطٍ، من أنه إذا تعرَّضَت حقوق مصر المائية وبقاؤها للتهديد، فـ”لن يكون أمام مصر بديلٌ سوى دعم وحماية حقها الأصيل في الحياة الذي تضمنه القوانين والأعراف الدولية وضرورات الطبيعة”. وأشارت نظيرته السودانية مريم الصادق المهدي إلى “قدرة إثيوبيا الأحادية” على “تهديد أمن وسلامة” المواطنين السودانيين.

وحذَّرَ الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في مارس/آذار الماضي من أنه “لا يمكن لأحدٍ أن يأخذ قطرة ماءٍ واحدة من مصر”، مضيفاً: “اللي عايز يجرب، يجرب”.  ووقَّعَت مصر والسودان اتفاقاً عسكرياً في مارس/آذار بعد زيارة قائد الجيش المصري للخرطوم. وفي يونيو/حزيران، سعى البلدان إلى ممارسة الضغط على أديس أبابا عندما أجريا مناوراتٍ عسكرية واسعة النطاق لـ”حماة النيل” بالقرب من حدودها.

وفي وقتٍ لاحق، قرَّرا رفع النزاع إلى مجلس الأمن في محاولةٍ منهما لإيجاد مخرجٍ من المأزق الراهن. ورأت إثيوبيا في القرار خطوةً لإفشال وساطة الاتحاد الإفريقي المستمرة منذ عام، بينما يقول محلِّلون إن رفع النزاع إلى مجلس الأمن يكشف أن البلدين يزدادان بؤساً.

ماذا تبقى لمصر من خيارات؟

قال محمد نصر علام، وزير الري والموارد المائية السابق في مصر، لصحيفة The Independent البريطانية: “الاتحاد الإفريقي منظمةٌ خاملة. إنه غير قادرٍ على الضغط على إثيوبيا لتقديم تنازلاتٍ، وبعد كلِّ هذه الأشهر لم يصدر تقريراً يشرح أسباب المأزق. لهذا السبب قرَّرَت مصر والسودان الذهاب إلى مجلس الأمن”. وحتى الآن، ثبت أن تحويل الأزمة بشأن السد إلى نزاعٍ دولي مهمةٌ شاقة. لم يُظهِر أعضاء مجلس الأمن الدولي أيَّ ميلٍ للاضطلاع بدورٍ مركزي في المفاوضات، وكرَّروا دعمهم لجهود الاتحاد الإفريقي للتوصُّل إلى اتفاق.

ويرجع ذلك جزئياً إلى أن إثيوبيا واجهت دولتيّ المصب بسرعة، وبواقعٍ لا رجعة فيه، من خلال البدء في ملء السد قبل أيامٍ من اجتماع مجلس الأمن. حتى أن فاسيلي نيبينزيا، مبعوث روسيا لدى الأمم المتحدة، وجَّه تحذيراً صريحاً لمصر والسودان من “تصعيد خطاب المواجهة”، مؤكِّداً أن بلاده لا ترى سوى المفاوضات باعتبارها الطريق الوحيد إلى الأمام.

وقال مارتن بلوت، زميل معهد دراسات الكومنولث في لندن: “تعتزم أديس أبابا المُضي قُدُماً في ملء السد، بغض النظر عمَّا يقوله مجلس الأمن”. وتقول إثيوبيا إن ملء الخزان أثناء هطول الأمطار الغزيرة في يوليو/تموز وأغسطس/آب جزءٌ لا يتجزَّأ من بناء السد، وتنفي أيَّ نيةٍ للإضرار بمصالح مصر والسودان.

لن يكون مجلس الأمن قادراً على فعل الكثير؛ لأنه منقسمٌ وليس له تاريخٌ في التعامل مع نزاعات المياه. قال أشوك سوين، أستاذ أبحاث السلام والصراع بجامعة أوبسالا السويدية، إن دعم الصين وروسيا لإثيوبيا يزيل أيضاً أيَّ احتمالٍ لاتِّخاذ الدول الثلاث أيِّ موقفٍ مشترك.

ويتذكَّر الوزير علام بمرارةٍ تصريحات نيبينزيا واصفاً إياها بأنها “صادمة” للمسؤولين المصريين الذي كانوا يأملون في الحصول على موقف أكثر دعماً من جانب موسكو، في ضوء العلاقات الدافئة بين البلدين.

هل يمكن للولايات المتحدة أن تفعل شيئاً؟

لكن الولايات المتحدة، كما يعتقد المسؤولون في مصر والسودان، هي الدولة الوحيدة القادرة على المساعدة في التوسُّط من أجل التوصُّل إلى صفقةٍ نهائية. في فبراير/شباط من العام الماضي، انسحبت إثيوبيا من جولة مفاوضاتٍ في واشنطن نظَّمها مساعدو ترامب. وفي أيامه الأخيرة في البيت الأبيض، أعلن ترامب أن مصر قد “تفجِّر” السد، وهو التصريح الذي صدم الجميع في أنحاء إفريقيا.

وكانت صحيفة The Washington Post الأمريكية قد تناولت قصة تصريحات ترامب بشأن كونه لن يتفاجأ إذا ما أقدمت مصر على تفجير السد، في تقرير بعنوان: “ترامب يُفتَرض به أن يتوسط في الخلاف حول سد النهضة. ولكنه يحرض على الحرب”.

كانت الصفقة في مُتناوَل الدول الثلاث، لكنها تعثَّرَت عند نقطتين شائكتين رئيسيَّتين، وهما كما أوضح ويليام دافيسون، كبير المحلِّلين لشؤون إثيوبيا في مجموعة الأزمات الدولية: “كمية المياه التي ستكون إثيوبيا على استعدادٍ لإطلاقها من سد النهضة في حالة فترة الجفاف، ومسألة تسوية النزاعات، مع رفض إثيوبيا التحكيم الدولي الذي أصرَّت عليه مصر والسودان”

 

وعيَّنَت إدارة بايدن الدبلوماسي المخضرم جيفري فيلتمان مبعوثاً خاصاً للقرن الإفريقي. وحتى الآن، واصلت واشنطن الضغط على حكومة آبي أحمد للانسحاب من المواقع الرئيسية في الحرب الأهلية المستمرة في إقليم تيغراي الشمالي الإثيوبي، حيث يُعرَف على نطاقٍ واسع أن الجيش الإثيوبي، بدعمٍ من القوات الإريترية، ارتكب مذابح ضد بعضٍ من سكان الإقليم البالغين 6 ملايين نسمة.

لكن فيما يتعلَّق بأزمة سد النهضة، يبدو أن إدارة بايدن متردِّدة في استخدام ثقلها لممارسة ضغطٍ كافٍ على أي طرف. وذهب الوزير علام إلى أبعد من ذلك ليرفض أيَّ حديثٍ عن وساطةٍ أمريكية؛ إذ قال مبتسماً: “لا أعتقد حتى إنه ستكون هناك وساطةٌ أمريكية”. لكن ابتسامة الوزير الساخرة تخفي شعوراً متزايداً بعدم الارتياح. وهذا الشعور ينبع من الحقيقة القاتمة المتمثِّلة في أن المأزق يعني نفاد الخيارات الدبلوماسية أمام مصر والسودان.

وقال محمد سليمان، الباحث غير المقيم في معهد الشرق الأوسط بواشنطن: “ليس لدى واشنطن استراتيجيةٌ صريحة بشأن النيل. الأولوية الرئيسية للولايات المتحدة هي ببساطة منع أيِّ تصعيدٍ عسكري بين الدول الثلاث من شأنه أن يعرِّض سكان هذه الدول البالغين 250 مليون نسمة للخطر”.

وشدَّدَ سليمان على أن “أيَّ زعزعةٍ إضافية للاستقرار في شرق إفريقيا والقرن الإفريقي هي خطٌّ أحمر لواشنطن؛ لأنها ستتسبَّب في نهاية المطاف في صدمةٍ عبر القارة الإفريقية وتؤثِّر على أمن البحر الأحمر، المرتبط بالأمن القومي للولايات المتحدة في إفريقيا”.

هل بات الأمر الواقع “كلمة السر”؟

وصار الأمن في المنطقة في حالٍ يرثى له بالفعل. فإلى جانب صراع إقليم تيغراي، دخلت القوات المسلحة والميليشيات من إثيوبيا والسودان نحو حربٍ شاملة على منطقة الفشقة المُتنازَع عليها، في وقتٍ سابق من هذا العام. وهذا يعني أن آبي أحمد، الذي فاز في الانتخابات العامة بانتصارٍ ساحق وفقاً للنتائج المُعلَنة رسمياً منذ أيام، يجلس على برميل بارودٍ من الحرب الأهلية وانعدام الاستقرار الاجتماعي والخلافات الحدودية والاقتصاد المُنهار تحت وطأة جائحة كوفيد-19.

وفي مواجهة هذا الوضع القاتم، يعلِّق جميع الإثيوبيين آمالهم على سد النهضة باعتباره حلماً يمكن أن يغيِّر حياتهم، وهي مشاعر قوية يبدو أن آبي أحمد عازمٌ على الاستفادة منها. ومن خلال تأجيج الدافع القومي وراء مشروع سد النهضة، يعتقد آبي أحمد أنه قد يكون قادراً على توحيد أمةٍ على شفا التفكُّك التام.

 

وقال دافيسون: “الصراع في تيغراي وعدم الاستقرار السياسي بشكلٍ عام يجعل الحكومة الإثيوبية تنظر إلى سد النهضة كبؤرةٍ مفيدة لبلدٍ منقسم تحاصره التحديات. وهذا يجعل من غير المُحتَمَل بشكلٍ خاص أن تقدِّم إثيوبيا أيَّ تنازلاتٍ الآن لم تكن على استعدادٍ لتقديمها من قبل”.

على الجانب الآخر من طاولة المفاوضات، يواجه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لغزاً مشابهاً. في الجنوب والقاهرة ودلتا النيل، لدى الناس اعتقادٌ راسخ بأن حكومتهم ستحمي تدفُّق المياه التي يعتمدون عليها في حياتهم.

ويتعيَّن على مصر والسودان إما تفعيل اتفاقهما العسكري المُبرَم في مارس/آذار وشن نوعٍ من الغارات الجوية على السد، وإما قبول الحل الإثيوبي أحادي الجانب لتنظيم تدفُّق مياه النيل الأزرق. وقال مارتن بلوت: “من الصعب رؤية أي بديل”.

وقال أشوك سوين: “في هذا الوقت، على الرغم من أن الخيار العسكري لا يزال أقل احتمالاً، فإنه لا يمكن استبعاده”. لكن الشعور السائد في اجتماع مجلس الأمن ربما يكون قد وضع أيَّ استعداداتٍ عسكرية من قِبَلِ مصر والسودان على نارٍ هادئة. ويقول علام إن مصر “ليس لديها خيار متبقّ سوى فرض الأمر الواقع، أو ستخسر النزاع وتفقد مستقبلها”.

 

شاهد أيضاً

وسط تقارير تتحدث عن قرب تنفيذ جيش الاحتلال اجتياحا بريا لمدينة رفح، حذرت الفصائل الفلسطينية …