صوتها قصة حزينة

Dr-Aly

 

فيينا : علي فرغلي : —

وقفتُ في الطابور أنتظر دوري للوصول إلى ماكينة البنك. فجأة سمعت صفارة الإنذار تخرج من ماكينة تقع في إحدى الزوايا ولفتت إنتباهي وجود سيدة مسنة، جميلة وحسنة المظهر، تبدو من سيدات فيينا الرقيقات الأنيقات الذين كبروا في فلل أوروبا المليئة بالزهور والأنتيكات والحيوانات الأليفة. كانت الماكينة تنبهها لسحب الكارت، بينما وقفت هي صامتة هادئة كأنها لا تسمع شيء على الإطلاق، ترتب حقيبة يدها الفاخرة بتأن استعداداً لمغادرة المكان.

ولأنني أعرف أن الماكينة يمكن أن تسحب الكارت داخلها بعد نصف دقيقة، ويستغرق استعادته من البنك حوالي يومين، تحركت بسرعة ومددت يدي نحو الكارت بحذر، وقلت: حضرتك نسيتِ الكارت!

كنت مترددا في سحبه بسرعة وإعطائها إياه، شعرت بالقلق لربما إذا فعلت ذلك لمساعدتها، تعتقد هي شيئا آخر! فالأجانب في أوروبا الآن يُنظر إليهم كخلايا السرطان! وبالطبع لا أحترم تلك النظرة الشمولية ولا أولئك الذين ينظرون للعرب بدونية رغم وجود بعض الحالات المشينة.

رجعت هي بسرعة وسحبت الكارت، وسادت لحظة صمت نَظرت فيها إلىّ بمحبة وقالت بصوت يملؤه الشجن ويدها تشير إلى شعرها الأبيض:

Ich wünschte, Ich wäre nicht alt werden

بمعنى: كنت أتمنى ألا أتقدم في العمر هكذا.

كان صوتها قصة حزينة، وليديها ملمس جدة حنونة حين ربتت على يدي وقالت بعينين تجري فيهما دموع مكتومة: عمري إثنان وتسعون عاماً.

لم أستطع الرد أمام عينيها المليئة بالعتاب، عتاب الزمن الذي ينهي كل شيء.. كأنها غاضبة لخيانة الحياة لها. فقط وضعت يدي على كتفها وقلتُ بتلقائية وخجل من حزنها:

Das Leben ist eine Raise

الحياة رحلة!

مشيتُ وقد فتح الموقف في رأسي حديثا مطولا عن الحياة والموت والزمن والفقد .. كل رحلة لها بداية ونهاية، النهايات عادة مؤلمة.. أكثر مرحلة نكون فيها سعداء هي الطفولة.. لماذا لم نولد كبارا ثم نصغر في العمر ونموت أطفالا؟ مثلما حدث في فيلم “حالة بنجامين” الذي قام بدوره الفنان الأميركي “براد بيت”، من إخراج “ديفيد فينشر” .. كيف يكون هو شعور إنسان بلغ التسعين عاماً؟ ولماذا لا نبقى على ما نحن عليه!

ربما على هذه العجوز أن تكون سعيدة، لقد عاشت في بلاد متقدمة مارست كل شيء وأكلت ما تشتهيه، نعمت ببلاد جميلة وقوانين عادلة، زارت جبال الألب ذات القمم العالية المغطاة بالثلوج والتلال الخضراء والسهول المنبسطة وآلاف البحيرات، حضرت حفلات موسيقية لبيتهوفن، وموتسارت وشوبرت وهايدن، شربت من مياه شديدة العذوبة والنقاء. كان يجب عليها أن تعتاد على عبثية الأشياء وأن تتقبل فكرة أن كل شيء ينقلب رأسا على عقب، كل شيء يتغير ويتبدل، غيرها يموت في ريعان شبابه، في الحرب والسلم .. غيرها يموت حياً لم يذوق طعم الحياة.

تتزاحم الأفكار في عقلي وأتذكر تلك الفتاة الشابة التي كانت بيننا وأطلقوا عليها (عروس الجنة) كانت مخطوبة وعلى أعتاب الحياة الزوجية. أصيبت بالحمى، وماتت فجأة. اختارها الموت دون غيرها، رحلت “منى حاتم” عن خمسة وعشرين عاما.. رحلت مثلما ترحل النسمة الجميلة ولا أحد يشعر بها، مثل الوردة التي تموت في بدايات عمرها.. لم أعرفها شخصيا لكن خطيبها صديقي، وحزنت عليها جدا.

إنه الموت الذي ينتظرنا ويختار دون رأفة احيانا. انها فكرة قاسية أن تشرق الشمس بشكل طبيعي وقد مات إنسان عزيز عليك ليلة أمس!

جففي عينيك أيتها العجوز، جفف عينيك أيها الصديق، في الرحلة جميعنا يحمل نفس التذكرة، تذكرة لها بداية ولا نعرف لها نهاية محددة .. وجه أبي الماثل أمامي دائما، أقاربي وأحبابي وأصدقائي وكل من عرفتهم ورحلوا، راسخين في وجداني لم يموتوا. ومن هذا المنطق نحن نعيش إلى الأبد .. نعيش في حيوات متتالية لا تنتهي، نعيش في قلوب من عشقونا.

 

 

شاهد أيضاً

هيئة الإحصاء النمساوية: ارتفاع حالات الفقر في النمسا بسبب الأزمة الاقتصادية

كشفت هيئة الإحصاء النمساوية المركزية اليوم الخميس عن ارتفاع حالات الفقر بين المواطنين بسبب الازمة …