أمريكا تواصل انحطاطها الأخلاقي وتمنع وقف إطلاق النار في غزة

بعد أن فعَّل الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، وبعد أن وجَّه خطابه إلى الدول الأعضاء في مجلس الأمن قائلاً: “إن أعين العالم والتاريخ تراقبكم، وقد حان الوقت للتحرك”، أفشلت الولايات المتحدة تمرير مشروع قانون يطالب بوقفٍ فوري لإطلاق النار في غزة، عبر استخدامها حقَّ النقض الفيتو، وهذه هي المرة الثانية التي تستخدم فيها الولايات المتحدة حق النقض ضد مشروع قرار يطالب بوقف إنساني لإطلاق النار في غزة منذ بدء الحرب.

رغم أن استخدام حق النقض من قِبل الولايات المتحدة كان متوقعاً، فإن جلسة مجلس الأمن كانت لها نتائج سوف يذكرها التاريخ، أولى هذه النتائج هي “العزلة الدبلوماسية الأمريكية والإسرائيلية”. يبدو أن عرقلة الولايات المتحدة لمشروع قانون وقف إطلاق النار أرسلت رسالةً واضحةً للعالم بأن الولايات المتحدة لم تعد قادرةً على حشد التأييد الدولي لإسرائيل، فهي نجحت في تعطيل مشروع القرار بناءً على أدوات غير متكافئة من السيادة، فرضتها الحرب العالمية الثانية، حين مُنحت الدول الأعضاء الخمس دائمة العضوية حق النقض. وظهرت هذه العزلة عندما أيَّدت 13 دولة مشروع القرار، وامتنعت بريطانيا (الحليف الاستراتيجي الأهم للولايات المتحدة) عن التصويت، بينما رفضت الولايات المتحدة منفردةً هذا المشروع.

وأظهر هذا التأييد لمشروع وقف إطلاق النار انقساماً حاداً في المجموعة الغربية ذاتها، وهي التي تُعتبر الحليفة لإسرائيل، حيث باتت الولايات المتحدة تقف في جانبٍ والمجموعة الغربية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) في طرف آخر. ولا يعود هذا الانقسام بطبيعة الحال إلى الخلاف حول التأييد المطلق لإسرائيل، بل يعود الخلاف إلى أن إسرائيل تجاوزت الحد المألوف من العنف، وتجاوزت جميع الحدود الأخلاقية لأي حرب عسكرية انتقامية. حيث بات من الصعب على الدول الغربية حتى أن تبرر عمليات التوحش والقتل الجماعي والاعتقال التعسفي وعمليات التدمير الممنهج للبنى التحتية والمشافي والأبنية المدنية تحت غطاء الانتقام، بل يبدو أنّ التوحش الإسرائيلي تجاوز جميع هذه الحدود.

كما أظهر الفيتو الأمريكي عمق الخلاف الحاد بين الولايات المتحدة ومجموعة العمل العربية والإسلامية، إذ إن الدول العربية وعلى رأسها الإمارات هي التي طرحت مشروع القرار على مجلس الأمن.

ورغم مساعٍ دبلوماسية حثيثة بذلتها مجموعةُ الاتصال الوزارية العربية، المنبثقة عن “قمّتَي الرياض” في عواصم أبرز الدول الأعضاء في المجلس، بخاصّة واشنطن، حيث التقى الوفد الوزاري العربي بعدّة مسؤولين، أبرزهم وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، ورئيس “لجنة العلاقات الخارجية” في مجلس الشيوخ، بِن كاردن، وعدد من أعضاء اللجنة، بغية إقناع المعنيين في الإدارة الأمريكية بالتصويت لمصلحة المشروع، فإن الولايات المتحدة أصرَّت على استخدام حق النقض، ما دفع المندوب الإماراتي محمد أبو شهاب إلى القول إننا نشعر بخيبة أمل عميقة لعدم اعتماد القرار، مؤكداً على أن مجلس الأمن بات معزولاً ومنفصلاً عن وثيقته التأسيسية.

في سابقة مهمة، وضع الأمين العام للأمم المتحدة عبر تفعيله المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة الدولَ أمام مسؤولياتها الأخلاقية والإنسانية، ليُظهر أنَّ الدولة الوحيدة التي تخالف وقف إطلاق النار في غزة هي الولايات المتحدة، وأظهرت هذه المخالفة (44 فيتو أمريكياً سابقاً لصالح إسرائيل في مجلس الأمن) أنّ الولايات المتحدة قامت بليّ ذراع مجلس الأمن، ومنعه من تحمُّل مسؤولياته التاريخية في المحافظة على السلم والأمن العالميين.

مَن يستغرب من هذا الموقف الأمريكي عليه أن يراجع قدراته على التحليل السياسي وفهم خريطة التحالفات، فبعد مرور أكثر من شهرين على الحملة العسكرية الهمجية الإسرائيلية على قطاع غزة لا تزال الولايات المتحدة ترسل الأسلحة والمعدات العسكرية إلى إسرائيل دون توقف. وقبل أيام فقط، وبحسب وزارة الدفاع الإسرائيلية، حطَّت الطائرة رقم 200 ضمن الجسر الجوي الأمريكي في إسرائيل محملةً بالذخائر والعتاد والمركبات المصفحة، ليصل حجم المساعدات الأمريكية لإسرائيل إلى أكثر من 10 آلاف طن من الذخائر.

وأما على المستوى السياسي والدبلوماسي فتقود الولايات المتحدة حملة دبلوماسية واسعة النطاق في المنطقة، لمنع فتح أي جبهات أخرى ضد إسرائيل، ولمنع التأييد العربي للشعب الفلسطيني في قطاع غزة. ففي العراق تستخدم السفيرة الأمريكية نفوذها السياسي، والتهديد بخلق أزمات اقتصادية عديدة للعراق، عبر تقليل إرسال الأموال العراقية المتحصلة من بيع النفط، والموجودة في الخزانة الأمريكية، إذا ما استمر الموقف الرسمي السياسي للعراق داعماً لفلسطين، ولمنع العراق كذلك من فتح جبهة جديدة ضد الولايات المتحدة أو إسرائيل. وتأتي هذه التحركات بعد المواقف الرسمية العراقية الصريحة في دعم حقوق الشعب الفلسطيني.

وفي لبنان وجَّهت السفيرة الأمريكية في أكثر من مناسبة رسائل تحذيرية إلى كل من رئيس مجلس النواب نبيه بري، وإلى رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي، تقول فيها إنه لا يكفي أن يتعهد لبنان بعدم مشاركة حزب الله في الحرب، بل عليه منع الفصائل الفلسطينية من استخدام الجنوب اللبناني ضد إسرائيل.

في الختام، علينا القول إنّه قد لا يجد سكان قطاع غزة الوقت للتفكير بحجم المؤامرة التي تُحاك ضدهم، من أجل تهجيرهم بشكل كامل، وقتل أكبر عدد من أطفالهم ونسائهم وتسوية بيوتهم بالأرض، فهم يقضون الليل والنهار في البحث عن مكان آمن لقضاء ليلة واحدة، وهم يدركون والعالم يدرك كذلك بأنه لم يعد هناك مكان آمن في غزة بكاملها. وفي زخم استعصاء التأمل بالنسبة للشعب المحاصر في غزة، نرى نحن (ممن يعيش خارج قطاع غزة) كل يوم خيوطاً جديدة للمؤامرة على هذا الشعب، هذه المؤامرة التي تقودها الولايات المتحدة في محاولة منها لجعل هذا العالم صامتاً أمام جرائم الإبادة وجرائم الحرب التي تمارسها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني.

الكاتبة – فاطمة الجبوري

شاهد أيضاً

مصرية إسكندرانية.. من هي مينوش شفيق رئيسة جامعة كولومبيا التي تدعم إسرائيل وتقمع التظاهرات؟

“إذا باركتم إسرائيل سيبارككم الله”، لم تحتاج نعمت شفيق أو “مينوش شفيق” رئيسة جامعة كولومبيا، …