فيلسوف بريطاني: نفوذ أميركا ولى.. ومستقبلها بيد الآخرين

ما يجري في الأسواق يخطف الأبصار ويشد انتباهنا جميعا غير أن هذا الغليان أكثر من مجرد أزمة مالية كبيرة، ما نراه اليوم هو تحول تاريخي لا رجعة عنه في موازين القوى العالمية، نتيجته النهائية أن عصر القيادة الأميركية للعالم قد ولى إلى غير رجعة.
لم يكن الأمر مفاجئا كما يبدو فقد كان بالإمكان تلمس إشاراته منذ أن فقدت الولايات المتحدة سيطرتها على باحتها الخلفية، فالرئيس الفنزويلي هوغو شافيز استخف بواشنطن وتحداها دون أن تستطيع معاقبته.

أكثر من هذا تراجع القيم الأميركية عالميا، فمع تأميم القطاعات الرئيسية في النظام المالي الأميركي فإن عقيدة السوق الحرة التي بشرت بها أميركا قد دمرت نفسها بنفسها، بينما ظلت الدول التي احتفظت بسيطرة كاملة على أسواقها في مأمن من العاصفة الحالية.

لقد سقط (جراء هذه العاصفة) نموذج كامل للحكم وإدارة الاقتصاد في تغير يشبه في آثاره إلى حد بعيد آثار انهيار الاتحاد السوفياتي.
لقد دأبت الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على حث الدول على كبح الإنفاق الحكومي، وتحملت دول مثل إندونيسيا وتايلند والأرجنتين ودول أفريقية عدة ثمن تلك النصائح التي سهر على تطبيقها صندوق النقد الدولي الحارس الأمين “للأرثوذكسية الأميركية“.
بل إن ضغوطا كبيرة مورست على الصين بسبب نظامها المصرفي الضعيف تبعا للمعايير الأميركية، ولعل نجاح هذه البلاد كان مستندا على حقدها على النصائح الغربية، فالبنوك الصينية اليوم ليست هي التي تتعرض للإفلاس والتلاشي.
لقد كان المشهد رمزيا بحق عندما سار رائد فضاء صيني في الفضاء في الوقت الذي كانت فيه وزارة الخزانة الأميركية تجثو على ركبتيها.
ورغم نصائحها المستمرة للدول الأخرى بتبني الطريقة الأميركية في إدارة الأعمال، فإن الولايات المتحدة كانت دائما تضع سياستين اقتصاديتين، واحدة لها والأخرى لبقية العالم.
فعلى مر السنوات الماضية بينما كانت الولايات المتحدة تعاقب الدول التي تتخلى عن الحصافة المالية (القائمة على عدم التدخل في الأسواق) عمدت هي إلى اقتراض مبالغ طائلة لتمويل خفض الضرائب (وبالتالي تشجيع الاستهلاك) وإدارة أنشطتها العسكرية في العالم (وبالتالي دعم شركات تصنيع السلاح).
لكن النتيجة التي بلغها المشهد الاقتصادي العالمي اليوم هي أنه مع تحول التمويل الفدرالي للاعتماد بشكل أساسي على التدفق المستمر لرأس المال، فإن الدول التي احتقرت النظام المالي الرأسمالي بنسخته الأميركية هي التي سترسم المستقبل الاقتصادي للولايات المتحدة.

لن يكون مهما أي نسخة سيتبناها الأميركيون لخطة الإنقاذ المالي التي أعدها وزير الخزانة هانك بولسون ورئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي بين بيرناركي (نشرت المقالة قبل التصويت على خطة الإنقاذ في صيغتها المعدلة)، فالمهم ما تعنيه تلك الخطة بالنسبة لدور أميركا في العالم.
ما تردد في الكونغرس (أثناء نقاش الخطة) بلغة مهذبة عن جشع المصارف ليس أكثر من تشتيت للانتباه عن الأسباب الحقيقية للأزمة، لقد ألقي اللوم على المصارف واتهمت بأنها السبب في ما آلت إليه حالة الأسواق الأميركية (وانجرفت لها الأسواق العالمية)، لكن تلك البنوك عملت في بيئة من الحرية المطلقة خلقها أساسا المشرعون الأميركيون.
إن الطبقة السياسية الأميركية التي تبنت قيما مبسطة بشكل خطير للتحرر من القوانين هي المسؤولة عن الفوضى الراهنة.
في الظروف الحالية فإن التدخل غير المسبوق للحكومة في الأسواق هو السبيل الوحيد لمنع وقوع كارثة في الأسواق، لكن نتيجة هذا التدخل في جميع الحالات هي أن الولايات المتحدة ستكون أكثر اعتمادا على القوى الناشئة حديثا.
فالحكومة الفدرالية (في سعيها لإنقاذ الأسواق) ستعمد إلى الاقتراض وهي قروض يشعر مقدموها -وهم على حق- بأنهم ربما لن يقدروا على استعادتها، بل إن الولايات المتحدة قد تشعر بإغراء للهروب من تلك الديون بإغراقها في التضخم مما يخلف خسائر ضخمة على المقرضين.
وفي مثل هذه الظروف هل ستكون الدول الأكثر قدرة على شراء سندات الخزينة الأميركية مثل الصين ودول الخليج (الفارسي) وروسيا مستعدة لدعم استمرار كون الدولار عملة احتياط عالمية؟ أم أنها ستعمل على تعديل ميزان القوة الاقتصادية في العالم ليصبح ملائما أكثر لمصالحها؟
وأيا كان اختيار أولئك المقرضين فإن التحكم في الأحداث وضبط إيقاعها لم يعد بعد الآن في يد أميركا.
لقد تعلق مصير الإمبراطوريات غالبا بالتفاعل بين عاملي الحرب والديون، فالإمبراطورية البريطانية تدهورت أوضاعها المالية بعد الحرب العالمية الأولى واستمرت في التدهور، أما الاتحاد السوفياتي فقد انهار تحت وطأة الهزيمة العسكرية في أفغانستان والعبء الاقتصادي الناجم عن محاولاته مجاراة برنامج الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان “حرب النجوم”، ذاك البرنامج الفاشل تقنيا لكنه كان فعالا بشكل كبير سياسيا.
ورغم إصرار الولايات المتحدة على أنها استثناء فإنها في الواقع لا تختلف كثيرا (عمن سبقها)، إذ إن حرب العراق وفقاعة الرهن العقاري قوضتا بشكل قاتل زعامة واشنطن الاقتصادية.
فالولايات المتحدة ستبقى لفترة من الزمن صاحبة أكبر اقتصاد في العالم، لكن القوى الصاعدة ستستحوذ بعد انتهاء الأزمة على ما تبقى سالما من حطام النظام المالي الأميركي.
لقد دار حديث لافت في الأسابيع الأخيرة حول “هارمجدون” (الملحمة الفاصلة بين أهل الخير وأهل الشر) اقتصادية (تنتهي باندحار الرأسمالية)، لكن ما يجري في الحقيقة بعيد عن أن يكون إعلان نهاية الرأسمالية.
ما يجري في واشنطن يعني نهاية شكل واحد من أشكال الرأسمالية هو الشكل الغريب والمتقلب الذي وجد في أميركا خلال السنوات العشرين الماضية، هذه التجربة المالية والمصرفية القائمة على سياسة عدم التدخل هي بالذات ما سقط وتلاشى.
وبريطانيا التي حولت نفسها إلى صندوق استثماري ضخم يفتقر إلى القدرة على الاستفادة من التقلبات سيلحق بها ضرر بالغ على الأرجح، أما الدول التي قاومت النموذج الأميركي في تحرير الاقتصاد فمن المتوقع أن تنجو من هذه العاصفة.
إن المفارقة اللافتة للنظر هي أن سقوط الشيوعية أفضى إلى نشوء أيديولوجيا طوباوية أخرى، ظهرت في الولايات المتحدة وبريطانيا وبدرجة أقل في بقية الدول الغربية، ورأت في “أصولية السوق” فلسفة رائدة، مما جعل من انهيار القوة الأميركية نتيجة متوقعة. (كتب جون غراي مقالا عام 2001 تنبأ فيه بسقوط وول ستريت).
وتماما مثلما جرى عند انهيار الاتحاد السوفياتي فإن الانهيار الأميركي (المالي) سيتسبب في تداعيات جيوسياسية كبيرة.
فالاقتصاد الضعيف لن يقدر بعد الآن على دعم الالتزامات العسكرية الأميركية الممتدة على نطاق واسع، لذا فإن خفض النفقات أمر محتوم، ومن المستبعد أن يتم هذا الخفض بالتدريج أو بتخطيط حسن.
الانهيارات التي نراها ليست تطورات بطيئة الإيقاع، بل هي غليان فوضوي وسريع، تنتشر آثاره سريعا، فالعراق على سبيل المثال تحقق فيه هدوء نسبي في بعض أجزائه عبر تقديم رشى للسنة رغم استمرار التطهير العرقي، لكن السؤال هو إلى متى سيستمر هذا في ضوء أن الإنفاق الأميركي الحالي على الحرب لا يمكن أن يستمر؟
حكام الصين يلوذون بالصمت حيال الأزمة الحالية، فهل الضعف الأميركي سيشجعهم على تأكيد القوة الصينية، أم أن الصين ستواصل العمل بسياسة “الصعود الهادئ“.
هذه الأسئلة لن تجد إجابات أكيدة في الوقت الراهن لكن ما هو مؤكد الآن هو أن القوة تتسرب من الولايات المتحدة بمعدل متسارع.
لقد أظهرت أحداث جورجيا أن روسيا تعيد رسم الخارطة الجيوسياسية بينما تكتفي أميركا بمشاهدة ما يجري وهي عاجزة عن منعه.
لقد حسب معظم الناس خارج الولايات المتحدة أن نمو الاقتصادات الجديدة المتوائمة مع قيم العولمة ستقوض الموقع المركزي لأميركا في العالم، وتخيلوا أن هذا سيستغرق أجيالا وعقودا لكن اليوم تبدو تلك الافتراضات ضربا من الخيال.
فبعد أن خلقوا ظروفا أنجبت أكبر فقاعة في التاريخ يبدو قادة الولايات المتحدة عاجزين عن فهم حجم المخاطر التي تواجهها بلادهم.
ولأنهم غارقون في وحول أحقاد ثقافة الحروب، ووسط خلافاتهم يبدون غافلين عن فهم حقيقة أن قيادة بلادهم للعالم تنحسر بشكل سريع، في حين يولد عالم جديد ما زال غير ظاهر، تكون فيه أميركا مجرد واحدة من عدة قوى عظمى، وتواجه مستقبلا غامضا لن تكون قادرة على تشكيله.

نقلا عن الأوبزيرفر

شاهد أيضاً

اختفى حجابها وزوجها.. حلا شيحة تثير الجدل من جديد فى عيد ميلادها الـ 43

في احتفالها بعيد ميلادها الـ43، اختارت الفنانة المصرية البعيدة عن الساحة حلا شيحة أن تثير …