رقيب داخلي لا يهدأ.. ما هو «الصوت الداخلي» وهل يمكن التحكم فيه؟

يعاني الكثير منا من صوت يتردد ولا ينقطع داخل رؤوسنا، ثرثرة شبه لانهائية، تسخر وتنتقد كل أفعالنا اليومية بلا رحمة، تزيد وعينا بذواتنا، لكنها على الجانب الآخر تربكنا، وتسرق النوم من أعيننا. هذا هو الصوت الداخلي الذي يعبث في رأسك.

قد يكون هذا الصوت أجزاء من أغنيات تستفزنا، أو محادثات خضناها ونود لو عاد بنا الزمن لتغييرها، أو أفكار حول المستقبل والماضي، وأحيانًا أحلام يقظة نبدل فيها الحقائق، والكثير مما ليس لنا عليه سيطرة واعية، وفوق ذلك يخلو من المنطق، فكثيرًا ما ننزلق بعيدًا عن الحاضر إلى عالم افتراضي مليء بالإسقاطات.

«الصوت الداخلي».. ذاك العالم الافتراضي

تسمح لنا اللغة بتكوين علاقات عميقة ومجتمعات معقدة، وكذلك تشكل حتى علاقاتنا الصامتة مع أنفسنا. في كتابه «الأصوات في الداخل»، استخدم عالم النفس تشارلز فيرنيهوف تعبير «الصوت الداخلي» للإشارة إلى حديث الفرد لنفسه داخل رأسه، ووصفه بأنه «كلام لا يلتزم بالعديد من اصطلاحات الكلام اللفظي، فغالبًا ما يكون مختصرًا لأنه لا يتعين علينا استخدام جمل كاملة للتحدث مع أنفسنا، فنحن نعرف ما نعنيه، كما أن العقل ينتجه بشكل أسرع لأنه لا يلتزم بالسرعة المطلوبة لاستخدام الألسنة والشفاه».

في إحدى الدراسات الأولى عن «الصوت الداخلي» حدد الباحثون عدد 4 آلاف كلمة في الدقيقة معدل متوسط، أي أسرع 10 مرات من الكلام اللفظي، ورغم ذلك يحافظ «الصوت الداخلي» على بعض خصائص الحوار عند تخيل إجراء حوار مع شخص آخر أو مع أنفسنا، وذلك لاحتواء عقولنا على العديد من وجهات النظر المختلفة التي يمكنها التشاور والمجادلة لخلق وهم «أنا» متماسكة.

لا يختلف الاستغراق في تلك الثرثرة الفكرية عن الحلم هو الآخر، إذ تجمعهما القدرة على استيعاب المعلومات والانطباعات التي تلقاها عقلنا بشكل غير مترابط، ليرسل منها مزيجًا غريبًا إلى أذهاننا.

أما الفرق بين حلم اليقظة والصوت الداخلي خلال ساعات اليقظة، فهو أن الأحلام تأتي من العقل الباطن، أما «الصوت الداخلي» فمن العقل الواعي، وبهذا يصبح لدينا سيطرة أكبر على الصوت بداخل رؤوسنا، لكنه – في الأساس – يدور داخل دوامات العقل، ومن هنا جاء مصطلح «أحلام اليقظة».

متي ينشأ هذا الصوت ومن أين يأتي؟

يعود الفضل في تأريخ ظهور هذا الصوت داخل الفرد لعالم النفس الروسي ليف فيجوتسكي، بعد أن درس الأطفال في عشرينات القرن الماضي، وأشار إلى أنهم عندما تعلموا التحدث إلى البشر الآخرين، تعلموا أيضًا كيفية التحدث مع أنفسهم بصوت عالٍ أثناء اللعب، والذي تسرب في النهاية إلى داخل رؤوسهم.

فترى طفلًا يتحدث إلى نفسه أحيانًا حول أشياء غير مترابطة، لكنه غالبًا ما يقول «سأبني مسارًا للقطار»، أو «سأبني منزلًا»، أو «سيبدو هذا المنزل مثل منزل عمتي».

في هذه السن الصغيرة ينشأ «الصوت الداخلي»، يأتي من خارجنا، يشكله القائمون على تربيتنا، والقيم والمعتقدات التي نستقيها من حولنا، والذكريات المبكرة الأخرى، ويتسرب إلى الداخل شيئًا فشيئًا، وذلك السبب في عدم فهمنا لذواتنا أو شعورنا بالتناقض أحيانًا.

يصير «الصوت الداخلي» تدريجيًا ردًا من الدماغ الواسع على قيود الحجم التي تفرضها الجمجمة أمام الأفكار، يصبح كالصوت الذي تطلقه الآلات في المصانع، وهنا تلتقي وظائف التعبير الخارجي والداخلي، فقد لاحظ عالم النفس البلجيكي برنارد ريمي أنه كما تزداد حدة «الصوت الداخلي» في لحظات التوتر، يشعر الناس بأنهم مضطرون للتحدث مع بعضهم البعض عندما يكونون في أقصى درجات التوتر من أجل التنفيس.

يمتلك بعض الناس صوتًا داخليًا أعلى أو مقلقًا أكثر من الآخرين؛ فهناك العديد من المؤثرات التي تنشطه أو تثبطه، بعضها وراثي وبعضها بيئي، والبعض له علاقة بالقلق وبعض الحالات الصحية الجسدية.

يواجه هؤلاء أزمة في الاستماع لأنفسهم، عند إعادة صياغة الأحداث، أو تناقل سريع من فكرة إلى أخرى، أو حوار داخلي غاضب، وبمجرد أن يستسلم الفرد لهذا «الصوت الداخلي» المضطرب، تتقزم تجاربه الخارجية، ويبدأ في التشكيك بقدراته ونجاحاته، ويصل إلى تخريب مسيرته المهنية، والتأثير السلبي على صحته بالنهاية.

أولئك القادرون على تهدئة الصوت الداخلي هم الأكثر سعادة؛ فيستخدمونه للتحفيز، والتعبير العاطفي، وربما يكون له دور في فهم ذواتهم، وتقييمهم بينما يسعون جاهدين لتحقيق الأهداف، أو إجراء عمليات محاكاة عقلية، والتمرن على الردود المثالية في مقابلات العمل، وربط الأحداث المتفككة للخروج بمغزى.

لكن.. كيف تحول الناقد الداخلي إلى محفز؟

يعد كتاب «الثرثرة: الصوت في رأسنا، ولماذا هو مهم، وكيفية تسخيره» أحدث مؤلفات إيثان كروس عالم النفس التجريبي وأحد الخبراء الرائدين في العالم في التحكم بالعقل الواعي. صدر الكتاب مع بداية العام الجاري في عالم يواجه وباءًا يجعل المستقبل ضبابيًا، وجاءت فيه بعض التقنيات التي يمكن استخدامها لترويض ذاك الصوت بناءً على أحدث التجارب التي أجراها إيثان في مختبره، والتي أهمها:

1- توجيه الحديث للذات: بالإضافة إلى «الصوت الداخلي»، هناك أيضًا أذن داخلية، وتوجيه الحديث لتلك الأذن يعد أسرع الطرق وأكثرها وضوحًا لكسب التعاطف مع الذات، وإلا لماذا يسهل علينا نصح الآخرين دون أنفسنا!
يمكنك التحدث مع نفسك مع استخدام اسمك، وذكر التحديات التي يواجهها صاحب هذا الاسم، بدلًا عن ضمير المتكلم، فتصبح مراقب محايد لهذا الشخص، كأن تقول: «على محمد تسليم عمله الليلة، لكنه يواجه أزمة، فكيف يمكنه حلها؟»، ثم تبدأ بتوجيه بعض النصائح له، ما قد يمكّنك من إعادة صياغة التهديد على أنه تحد.

2- نظرية التباعد الزمني: إذا سألت أولئك الذين يمرون بتجربة صعبة كيف سيشعرون حيالها في غضون 10 سنوات بدلًا من الغد، فستبدو مشاكلهم على الفور مؤقتة، وهكذا تتطلب منك تلك الطريقة أن تنظر للأمام، وترى نفسك في مستقبل يكمن فيه العذاب الحالي وراءك، وقد أصبح مجرد ذكرى، وها أنت مسيطر على أمورك ومشاكلك الحالية، ما يعد شكلًا من أشكال السفر عبر الزمن، لرؤية نفسك وقد حققت ما تخطط له اليوم

3- التنفيس: التحدث عن الخيالات السلبية مع الأصدقاء يمكن أن يطردها من بالك، فالطاقات النفسية المكتومة تبحث عمن يفرج عنها، مثل البخار المتصاعد من غلاية الشاي، لا يمكننا الوقوف أمامه وإجباره على التوقف. يمكنك أيضًا ممارسة بعض الأنشطة التي تتطلب استحضار ذهنك، كالمشي بين الجبال، أو تسلقها، أو قضاء بعض الوقت في متابعة عمل فني عميق.

4- كتابة مذكرات: أثبتت كتابة اليوميات فعاليتها بالنسبة للبعض، لأنك مع الأحداث الفظيعة التي لم تتخيل انقضاء تبعاتها يومًا ستجدها وقد انقضت أمام عينيك وأنت تقلب الصفحات.

5- التحكم بشيء خارجي: يمكنك اختيار منظومة معينة خارجك، تتحكم فيها، وتبدأ في ترتيبها، ما له من تأثير فعلي على المنظومة المشتتة داخل عقلك؛ كأن تعيد تنظيم درج الجوارب، أو ترتيب الكتب بمكتبتك، أو تنظيم أدراجك، وستجد «الصوت الداخلي» يهدأ بالتبعية.

هذا المحتوى تقلاّ عن موقع ساسة بوست

https://www.sasapost.com/voice-in-head/

 

شاهد أيضاً

يبدو أن الولايات المتحدة تشهد موجة جديدة من المكارثية التي تكبح الحريات وتطارد المخالفين بشكل …