عندما طلب إمبراطور النمسا من موتسارت كتابة عمل مضحك ومرير

بقلم الباحث والكاتب – إبراهيم العريس —-

قبل سنة ونيف من رحيله عام 1791، كان موتسارت منهمكاً في إنجاز تلك التي ستصبح واحدة من أقوى أعماله الأوبرالية، بل واحدة من أشهر الأعمال في تاريخ هذا الفن، “دون جوان”. وكان يعمل بسرعة وتفان كمن يحس أن عليه أن ينجز هذا العمل قبل حدوث “شيء ما”. وربما كان يعرف في أعماقه أن هذا الشيء يمكن أن يكون نهايته، ومن هنا حمل تلك الأوبرا أموراً ذاتية كثيرة، من بينها علاقته المضطربة بوالده الذي كان رحل قبل فترة. في تلك الفترة بالذات جاءه من القصر الإمبراطوري من يخبره بأن سيد القصر، الإمبراطور جوزف الثاني يتمنى عليه أن ينجز وبأقصى سرعة ممكنة عملاً أوبرالياً خفيفاً يحكي ما حدث حقاً في مدينة تريستا التي كانت نمسوية حينها. هو عبارة عن حدث بالغ الطرافة يتحدث بسخرية عن الحب والوفاء الزوجي وما إلى ذلك في قالب أشبه بما يروى على خشبات مسرح الفودفيل، لا سيما في الأعمال الأوبرالية على الطريقة الإيطالية. وطبعاً يومها لم يجد الموسيقي الشاب مهرباً من الانصياع للرغبة الإمبراطورية، فكانت أوبرا “هكذا يفعلن جميعاً” التي لم يكن أحد ليخمن أنها ستكون واحدة من آخر أوبرات موتسارت، بل كذلك آخر أوبرا يطلب الإمبراطور من موسيقيه الشاب تلحينها كما ستكون آخر ما يقدم على خشبة “البورغثياتر” في حياة جوزف الثاني الذي بموته بشكل مباغت في اليوم الخامس لتقديم “هكذا يفعلن جميعاً” وضع نهاية للتقديم الأول لها في فيينا يوم 26 يناير (كانون ثاني) 1790 قبل عام ونيّف من رحيل موتسارت بدوره.

قمة المرح ولكن…

ومع هذا تبقى “هكذا يفعلن جميعاً” تعبر عن قمة المرح في موسيقى موتسارت، ولكن في الوقت نفسه، وبشكل عرف الموسيقي كيف يدمجه في عمل لم يكن يعنيه ولا كان ما جذب الإمبراطور إلى الموضوع الذي أضحكته “خبرياته”، حين نميت إليه إلى حد القهقهة، وكان يأمل من موسيقى موتسارت أن تنقل إليه عدوى ذلك المرح نفسه. صحيح أن الأوبرا في حد ذاتها حملت ما كان من شأنه أن يرضي الإمبراطور ويسري عنه، لكن المؤرخين الموسيقيين وكتاب سيرة موتسارت لم يفتهم، وإن بعد زمن طويل، أن يتوقفوا عند الطريقة التي بها استحوذ موتسارت على ذلك الموضوع الخفيف، ليحقق من خلاله غايتين كان يراهما مترابطتين، فمن ناحية نراه هنا يجرب من جديد ما كان أبدعه في “زواج فيغارو” من مزج خلاق بين نوع درامي من موسيقى الموقف في اللحظات الأكثر تألقاً، لا سيما في الفصل الأول، حيث تطالعنا “خماسية” لافتة إضافة إلى “ثلاثيتين” في منتهى العذوبة وحدها عبقرية موتسارت جعلتها منطقية ومقبولة في عمل “كوميدي” من هذا النوع. ولعل ما يجدر بنا التنبه إليه هنا هو أن موتسارت، وتلكم غايته الثانية على أية حال، عرف من خلال تلك الألحان كيف يعبر، بصورة يمكن وصفها بـ”الوجودية” عن عبثية الحب ولا جدواه، وهو على أية حال الموضوع الخفي في خلفية الحدث الذي كان هو ما لفت نظر الإمبراطور أصلاً.

موتسارت (1756 – 1791)

والحدث يتعلق برهان قام بين صديقين ضابطي جيش في تريستا، التي سيبدلها موتسارت في أوبراه بميلانو لأسباب لم تبد واضحة، هما فيراندو وغوليالمو، وبين واحد من معارفهما، ألفونسو، عرف بريبته بكل شيء، لا سيما بالنساء وقدرتهن على الإخلاص في الحب. وفحوى الرهان أن يبتعد الضابطان الصديقان عن خطيبتيهما، فيورديليجي ودورابيلا، ليريا بعد عودتهما ما إذا كانت الخطيبتان قد أخلصتا لهما خلال ذلك الغياب. وهكذا ستقوم لعبة يزعم فيها الخطيبان أنهما قد استدعيا إلى الجبهة على عجل، ثم يعودان خفية إلى المدينة لمعرفة ما الذي من شأنه أن يحدث خلال غيابهما المزعوم. وبالفعل، وتحت إشراف ألفونسو، الصديق الشكاك وبالتعاون مع الخادمة ديسبينا، كما جرت العادة في هذا النوع من الفودفيل يسافر الخطيبان ليعودا قبل موعد عودتهما المعلن متنكرين في زي رجلين ألبانيين، ويروح كل منهما بعد تدبير لقاء لهما مع الخطيبتين، يغازل خطيبة الآخر دون أن تفهم هاتان ما يدبر لهما. والمهم أن الخطيبتين الغافلتين ستقعان ولو بعد شيء من التردد، في الفخ المنصوب لهما إلى حد أن كلاً منهما ستقبل بالزواج من ذاك الذي يغازلها وقد تخلت عن خطيبها الغائب. ويقام بالفعل حفل عقد القران المزدوج أمام ديسبينا وقد تنكرت في زي كاتب العدل. وهنا خلال ذلك الحفل يتم افتضاح اللعبة بأكملها، بل يربح ألفونسو رهانه فيتغلب شكه المقيم على طمأنينة صديقيه وثقتهما بخطيبتيهما وعمق الحب الذي يربط كلاً منهما بفتاته.

فلسفة للاإخلاص

وطبعاً ستكون الكلمة الفصل عند هذه الخاتمة لألفونسو نفسه الذي تماماً كما أثار الحكاية من الأساس ورسم قواعد اللعبة، ها هو يتنطح، للوصول إلى نهاية سعيدة على الرغم من كل شيء، إلى ضبط الأمور، لا سيما بعد أن فرض رأيه وريبته ما جعله قادراً على فلسفة الأمر علىى النحو الآتي: إن النساء من الصعب عليهن أن يخلصن في اتباع لواعج الحب الحقيقي في قلوبهن. وحين تشعر المرأة أنها متروكة ممن تحب سيكون من شأنها أن تفعل ما تشاء، مهما كان مقدار غرامها في البداية وسواء كانت حلوة أو بشعة، صغيرة أو كبيرة. الواحدة تفعل هذا وكلهن يفعلنه كما يستخلص ألفونسو في لهجة انتصار مدوية. ومن المؤكد هنا أن هذا الحكم المعمّم الذي استخلصه ألفونسو من لعبته، هو الذي راق لموتسارت ودفعه إلى خص عمله الأوبرالي هذا بموسيقى عرف فيها كيف يبتعد عما كان قد أداه في أعمال مماثلة سابقة له كان يحرص فيها على موسقة تبدو طريفة ولاهية في كل فقرة منها. هنا – وهنا يكمن كما يبدو سحر هذا العمل والسبب الكامن وراء العودة إلى تقديمه في معظم المواسم الأوروبية، ما يجعله أنجح أعمال موتسارت في هذا النوع، عرف موتسارت كيف “يعلق” على بعض أشد لحظات “هكذا يفعلن جميعاً” مرارة، لا سيما حين ينكشف أن الحق كان مع ألفونسو في ريبته، بموسيقى لا تخلو من بعد درامي يكاد يدعو المستمعين، أكثر من المتفرجين إلى تحسر حقيقي على الخيارات العاطفية التي لم تكن في الحسبان. وفي يقيننا أن بعض الجمعيات النسوية التي لم يفتها أن تهاجم هذه المسرحية وتدعو إلى عدم عرضها ومقاطعة النساء لها حين تعرض رغماً عنهن، وهي دائماً ما تعرض برضاهن أو سخطهن، تلك الجمعيات لم تفهم تماماً موقف موتسارت ومرارة بعض لحظاته الموسيقية، متوهمات أنه إنما يدين النساء ويعمّم عليهن فكراً ذكورياً!

النسويات على الخط

ولنذكر هنا أن “هكذا يفعلن جميعاً” وعلى هذه الخلفية، كانت في عداد عدد لا بأس به من أعمال إبداعية تشارك كاتب هذه السطور عند بداية سنوات السبعين في “فضحها” في روما، عبر نضال يقوم في توزيع منشورات وملصقات تندد بها إلى جانب مسرحيات لشكسبير ومقاطع من هيغل وغيرهم من الذين كانت تنظيمات نسائية تعمل ضمن إطار منظمة “المانيفستو” المنشقة عن الحزب الشيوعي الإيطالي، تندد بهم وبأعمالهم معتبرة إياهم معادين للمرأة يمارسون تمييزاً جنسياً. يومها كان كاتب هذه السطور يشارك في تلك النضالات، ولكن على سبيل التعاون والتسلية هو الذي لم يتوقف يوماً عن تبجيل شكسبير وهيغل، بخاصة أوبرا “هكذا يفعلن جميعاً” معتبراً إياها قمة في الأوبرا المرحة إنما مرحة بمرارة. ومن الجدير ذكره أن ريتشارد فاغنر المعتبر في تاريخ الفن من أعظم مؤلفي الأوبرا، كان يعتبر “هكذا يفعلن جميعاً” أوبرا كبيرة واستثنائية، ولم يتوان عن مدحها في كتابه “الأوبرا والدراما” معلناً امتنانه لأماديوس وولفغانغ موتسارت لكونه “لم يجازف بأن يجعل لهذه الأوبرا سياقاً يكرر سياق سابقتها “زواج فيغارو”، ولا لأوبراه الأخيرة “تيتوس” سياق سابقتها “دون جوان”…”

شاهد أيضاً

النمسا – العثور على جثتين في منزل بولاية بورجنلاند

هزت جريمة مروعة منطقة ستوتيرا في ولاية بورجنلاند، حيث عثرت الشرطة على جثتين لامرأة تبلغ …