بدء بشرب منقوع الخشخاش إلى الليدوكايين.. قصة تطور التخدير عبر التاريخ الطبى

تخيل مشهدًا حيًا لأحد الأطباء في بدايات القرن التاسع عشر أو قبل ذلك يجرى عملية جراحية لمريض. المشهد الذي أمامك سيكون حتمًا جراحة سطحية، أو بترًا أو ربما إزالة حصوات من المثانة لا أكثر من ذلك، فتلك هي العمليات المتاحة في ذلك الوقت، أما بالنسبة لجراحات البطن والصدر والجمجمة فلم تزل محظورة.

المريض المنتظر في الغرفة للخضوع للجراحة تظهر على وجهه ملامح الخوف؛ فهذا هو ملاذه الأخير الذي اضطر طبيبه إلى الجوء إليه رغم المعاناة الشديدة التي سيعانيها المريض، فلا وجود للتخدير في تلك الأثناء. ربما يُخضع الأطباء مرضاهم للتقييد، ويسمحون لهم بتناول بعض النبيذ، أو تناول بعض الأعشاب ذات التأثير المخدر.

لننقل المشهد إلى غرفة جراحة حديثة، أو عيادة طبيب أسنان، فحتمًا ستجد أدوات تخدير لمنع الألم المصاحب للإجراءات الجراحية، فقد تغيرت ممارسة الطب منذ منتصف القرن التاسع عشر مع اكتشاف التخدير العام.

ولأجل إجراء العمليات الجراحية في الوقت الحالي، يجب إخضاع المريض للتخدير، إما عن طريق استنشاق الغازات، أو حقن الأدوية عن طريق طبيب تخدير متخصص، وفي ظل رعاية مستمرة لمراقبة الوظائف الحيوية للمريض. وينطوي التخدير على إحداث استرخاء العضلات، وتخفيف الألم أو الوقاية منه، وفقدان الوعي، وانعدام القلق، وقد تكون التأثيرات جميعها معًا، أو بعضها فقط.

في السطور التالية، نتعرف على قصة اكتشاف التخدير وكيف كان الطب بدونه في السابق؟

في البدء كانت النباتات المخدرة.. التخدير في الحضارات القديمة

تشير السجلات التاريخية إلى استخدام الحضارات القديمة في مصر، واليونان، وبلاد الرافدين، والهند، النباتات الطبية ذات التأثير المخدر مثل البنج الأسود، والخشخاش المنوم، واليبروح، وأبخرة القنب. واستخدموا الخلطات العشبية مثل الأفيون، والماندريك، والهينبان، بوضعها في النبيذ، جنبًا إلى جنب مع أوراق الكوكا في روما القديمة وإمبراطورية الإنكا.

وفي القرن الثاني كان الطبيب والجراح الصيني «هوا تو» أول من استخدم التخدير خلال الجراحة في الصين باستخدام خليط من النبيذ مع بعض الأعشاب، وذلك بعد الاعتياد على استخدام الإبر الصينية.

نبات اليبروح الذي كان يستخدم في التخدير قديمًا

شهد القرن الثالث عشر استخدام ثيودوريك لوكا، وهو طبيب وأسقف إيطالي، إسفنجات مبللة بالأفيون والماندراغورا لتخفيف الآلام الجراحية، كما استخدام الحشيش، والقنب الهندي، بشكل شائع كمسكنات للألم.

في عام 1540 أجرى الطبيب وعالم النبات الألماني فاليريوس كوردوس تقطيرًا للإيثانول وحمض الكبريتيك، وكان الناتج مركب ثنائي إيثيل الإثير. فيما بعد استخدم الأفيون القابل للحقن في ألمانيا، وأكسيد النيتروز لتخفيف الآلام في إنجلترا حتى قرب بداية القرن التاسع عشر.

التخدير باستخدام الإيثير الكبريتي في جراحة بالفك

في أكتوبر (تشرين الأول) 1846، نجح طبيب الأسنان الأمريكي ويليام مورتون في إزالة ورم في الفك الأيسر لأحد مرضاه بعد تخديره باستخدام الإثير الكبريتي. والإثير عبارة عن سائل ذي رائحة لطيفة، وعديم اللون، لكنه قابل للاشتعال، يمكن تبخير الإثير إلى غاز يخدر الألم، ولكنه يترك المرضى واعين.

الاستخدام الأول للإثير في جراحة الأسنان

قد عرف مورتون فاعلية الإثير الكبريتي بعد استماعه في عام 1844 إلى محاضرات ألقاها أستاذ الكيمياء بجامعة هارفارد، تشارلز جاكسون حول فاعلية الأثير الكبريتي وكيف يمكنه أن يُفقد الشخص وعيه ويجعله عديم الشعور. لكن مورتون لم يبدأ في استخدامه على الفور، فقبل أن يُعرِّض مرضاه للإثير، اشترى كمية منه، واختبرها على نفسه وبعض الحيوانات الأليفة، وعندما تأكد من سلامة المادة وموثوقيتها استخدمها مع مرضاه.

لكن في عام 1848 نشر الطبيب الجورجي كروفورد ويليامسون لونج نتائج تجاربه في استخدام الإثير كمخدر عام أثناء الجراحة، وذكر أنه استخدمه لإزالة ورم من عنق مريضه جيمس إم فينابل في عام 1842.

الكلوروفورم لتخفيف آلام الولادة

في عام 1847 استخدم الطبيب الأسكتلندي جيمس سيمبسون الكلوروفورم لتخفيف آلام الولادة، واكتسب الكلوروفورم شعبيته، وأصبح يُستخدم في الجراحة وعمليات الأسنان. والكلوروفورم عبارة عن سائل ذي رائحة حلوة، وعديم اللون، وغير قابل للاشتعال. يستخدم الكلوروفورم للتخدير عن طريق تقطيره على إسفنجة، أو قطعة قماش، ويستنشق المريض الأبخرة، فتنتشر تأثيراته المخدرة على الجهاز العصبي المركزي.

وقد صنّع العديد من الباحثين الكلوروفورم في وقت سابق لاستخدامه في التخدير، ففي عام 1830 خلط الكيميائي الألماني آن دير أودر الجير المكلور مع الإيثانول، ومن الطبيعي ان يكون الناتج هو مركب الكلوروفورم، ولكن أودر أخطأ وظن أن الناتج كلوريك الإثير.

كذلك في عام 1831 أجرى الطبيب الأمريكي صموئيل جوثري التفاعل ذاته، وظن أيضًا أن الناتج كلوريك الإثير، ولكنه لاحظ الخصائص المخدرة لناتج التفاعل.

الطبيب جيمس سيمبسون واثنان من أصدقائه أثناء اختبار التأثير المخدر للكلوروفورم

في عام 1834 حدد الكيميائي الفرنسي جان بابتيست دوماس صيغة الكلوروفورم التجريبية وأطلق عليها الاسم. وفي عام 1842 اكتشف روبرت مورتيمر جلوفر في لندن الصفات المخدرة للكلوروفورم على حيوانات المختبر.

رغم مخاطره.. استخدمته الملكة فيكتوريا أثناء الولادة

كانت هناك بعض المخاطر المحيطة بتلك الوسائل التخديرية، فقد كان الإثير قابلًا للاشتعال، وارتبط استخدام الكلوروفورم بارتفاع معدلات السكتات القلبية. وقد أظهرت العديد من التقارير حدوث وفيات جراء التخدير بالكلوروفورم، فالتحكم في جرعاته وضبطها يتطلب مهارة طبية كبيرة. إذا كانت الجرعة قليلة فمن الممكن أن يستيقظ المريض أثناء الجراحة، أما إذا زادت الجرعة فإنها تصيب الرئتين بالشلل؛ مما يسبب موت المريض.

دفعت هذه المخاطر العديد من المرضى الابتعاد عن التخدير، لكن رغم هذا فقد خضعت الملكة إليزابيث لتخدير الكلوروفورم مرتين. ففي عام 1853 استخدم الطبيب جون سنو الكلوروفورم لتخدير الملكة فيكتوريا أثناء ولادتها للأمير ليوبولد، واستخدمه مرة أخرى أثناء ولادة الأميرة بياتريس.

تطور التخدير في القرن التاسع عشر والعشرين

استمرارًا لتطور علم التخدير عُين الطبيب هنري دور أول أستاذ في العالم لممارسة التخدير وطب الأسنان في كلية فيلادلفيا لطب الاسنان في عام 1889. ونُشرت أول مجلة علمية مخصصة لعلم التخدير بعنوان «The Dental and Surgical Microcosm» في عام 1891 أعقبها تشكيل أول جمعية للتخدير في العالم في لندن 1893.

في عام 1898 تمكن الجراح الألماني أغسطس جوستاف بيير من إجراء التخدير النخاعي باستخدام الكوكايين، وبعد 10 سنوات أجرى التخدير الموضعي في الوريد.

في عام 1901 تمكن أطباء فرنسيون من ابتكار تقنية حقن عقار مخدر ضمن السائل الدماغي الشوكي فيما يسمى بالتخدير حول الجافية، وكان ذلك بعد حقنة فوق الجافية غير مقصودة من الطبيب الذي أجرى العملية جي ليونارد كورنينغ.

التخدير أثناء جراحات الفم والأسنان

توالت الإنجازات الخاصة بالتخدير، كما صيغ مصطلحا علم التخدير وطبيب التخدير لأول مرة في عام 1902، وفي عام 1914 نشر أول كتاب شامل عن التخدير في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي العام ذاته طور الدكتور دينيس إي جاكسون نظام تخدير يمتص ثاني أكسيد الكربون؛ مما يسمح للمريض بإعادة تنفس هواء الزفير الذي يحتوي على مخدر، وتنظيف ثاني أكسيد الكربون؛ مما يؤدي إلى استخدام مخدر أقل.

كانت الدكتورة إيزابيلا هيرب أول رئيسة للجمعية الأمريكية لأطباء التخدير، وساعدت في تطوير طرق تخدير أكثر أمانًا وفعالية، بما في ذلك نوع جديد من شاشة التخدير لإدارة غاز الإيثيلين، وكانت أول من استخدم إيثيلين الأكسجين سريريًا كتخدير أثناء الجراحة التي أجراها الطبيب آرثر دين بيفان في عام 1923.

استمر التخدير في التطور، فأدخل الليدوكائين كمخدر موضعي، والهالوثان، وهو أول مخدر عام معالج بالبروم في العصر الحديث، وتوالى ظهور الغازات الاستنشاقية في الاستخدام بالممارسات السريرية للتخدير، ومنها مخدر ميثوكسي فلوران، والأيزوفلورين، وديسفلوران، وسيفوفلوران في الممارسة السريري

 

 

شاهد أيضاً

النمسا – العثور على جثتين في منزل بولاية بورجنلاند

هزت جريمة مروعة منطقة ستوتيرا في ولاية بورجنلاند، حيث عثرت الشرطة على جثتين لامرأة تبلغ …